فأقبر نفسه لما رآها ... وزخرَفَها أفلّ من الذباب
وأصبح آخذاً بذناب عيش ... وأبرمها الشهيّ من اللباب
وكانت قبل مضجعها سرير ... فأضجعها لذاك على إهاب
وكان قرانها أبداً وطيئاً ... فوطنها على حب التراب
وأصبح بالتلاوة ذا ولوع ... يطالع بين دفات الكتاب
إذا أنهى التلاوة قال ربي ... أجرني من عقابك والعذاب
فقابلني إذا ما أبْتُ ميتاً ... بفضلٍ يقتضي حسن المآب
فهذا إن سألتم عن خمولي ... وطول تحجبي عينُ الصواب
ولكن أنتم ذا قوم دهيتم ... بدنياكم فصرتم في التهاب
وكان شاعراً صوفياً حجّ بيت الله الحرام ونفع الناس بعلمه وهو ثاني أخوته وأكبرهم الشيخ محمد السنوسي وقد قرأ مع أخويه على والدهم وعلى الشيخ محمد الغرياني ومن قد عاصهما وتضلّع كلهم بالمعقول والمنقول وكان الشيخ محمد السنوسي أجود شعراً من أخيه الأوسط ومن لطيف شعره قوله: [الكامل]
قد قلت لما أن رأيت بكفه ... منقالة والشوق حلّ بأضلعي
ذي قبة الفلك التي هي في السما ... هبطت إليك من المحل الأرفع
ومن بدائع شعره قصيدته التي هنا بها الشيخ محمد بن علي بن سعيد النجم محشي الأشموني حين ختم الشمائل تدريساً وهي قوله: [الطويل]
أرى ربع نت أهواه غير بعيدِ ... فهاهو مني مثل حبل وريدِ
فعوجا قليلاً بي لعليَ اشتفي ... بسكب دموع فوق صحن خدودِ
حكى صوبُها صوبَ الغمام إذا هـ ... مى وصوت زفير القلب صوت رعود
على أنه لم يجدني سكب عبرتي ... على طلل عاف بطول عهود
وفي كبدي نار يشب لهيبها ... لبينهمُ لم تتصف بخمود
يرى الشوقَ جثماني فصار من الضن ... ى دقاق عظام ضمنت بجلود
ولم يبقَ في جسمي سوى شبح ير ... ى دليل حياة مؤذن بوجود
ولم يثنني عن حبهم طول نأيهم ... ولم أسلهم طول الحياة بغيد
فحبهم وصفي ولي قام لازماً ... كما قام وصف العلم بابن سعيد
هو العلم السامي الإمام محمد ... سليل علي ذي الوفا بعهود
أسعد الراجين نيل علومه ... بفهم ورأي صائب وسديد
وقد قيد العمر المديد حياته ... بحل عويص أو بقيد شرود
فلا جدة أغنته عن حب نائلٍ ... ولكن لزهد في دناه شديد
ومن جغل العلم المشرف بازياً ... لصيد العطايا كان غير رشيد
وما هو إلا للنفوس مكمل ... وليس سبيل الانتقام تزيد
فمن شاء وصف العلم فَليكُ شاكراً ... وإلا فمنه الذم غير بعيد
حويت ابا عبد الإله شمائلاً ... صعدت بها العلياء خير صعود
فغادرت كل الحاسدين كأنهم ... بقايا ثمود في ديار ثمود
كختمك في يوم شمائل أحمدٍ ... فكنت بذاك الختم خير حميد
فدم ذا فخار ماشياً تحت راية ... تخفّق في دار الدنا وبنود
وتحت لواء المصطفى يوم محشر ... جزاءً لما أرضيته بمزيد
لأني بمرأى منك حقاً ومسمع ... بآونة تلقي لسمع مريد
حديثاً بإسناد صحيح رويته ... فأنت لما ترويه خير مجيد
وإنك ذو لفظ شهيّ مهذب ... إلى كل من يُصغي إليه معيد
يحاكيه لحن الموصلي ومعبد ... إذا غنيا يوماً بشعر لبيد
فكيف إذا تروي الحديث مرتلاً ... ببيت عتيق للإله مشيد
ولولا وداد منك صح مصاحباً ... لحسن وفاء بالعهود مديد
لما ملت يوماً للثناء على امرئ ... وقمت إلى الإنشاد بعد قعود
وشعريَ ذو ودٍّ لأهل مودتي ... وليس لمن لم يَهوني بودود
وودي إلى طول المدى ليس ينقضي ... وحقك إلا بانتهاء وجودي
وقد أجابه عن ذلك الشيخ محمد بن سعيد النجم بقوله: [الطويل]
لمن ظبيات في محاجر سود ... تركن أسود الحي غير أسود
وغير بعيد أن يكنّ أوانسا ... أتين إلينا من جِنَانِ خلودِ
هززن قدودا ثم قلن إلى القنا: ... تأخرن ما فيكن مثل قدودي
وأسفرن عن در يقول ابتسامته ... عقود النجوم الزهر دون عقودي
وأبرزن رايات الخدود وقلن لي ... أيا عمُّ هل في الروض مثل خدودي