أما والدها فقد ولد سنة ١٢٥٢ اثنين وخمسين، ونشأ بين يدي والده، وقرأ مبادئ من الفقه والعربية، واشتغل بالكتابة، فعد من بارعي الكتاب استكتب مدة في الرابطة ثم استخدم كاتباً خصوصاص مع الوزير الأكبر مصطفى خراندار بعد وفاة والده وعند عزل مخدومه ترك الخدمة ولازم داره وفاء بحسن عهد مخدومه. وولد والده محمد سنة ١٢٣٦، وكان كاتباً بارعاً تقدم للكتابة في وزارة البحر وتدرج فيها إلى أن صار رئيساً وسافر مع الوزير خير الدين لباريس في محاسبة محمود بن عياد، ثم خرج لحج بيت الله الحرام فتوفي بمكة بعد أداء فريضة الحج وكانت وفاته ليلة الجمعة السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة ١٢٨١ إحدى وثمانين ومائتين وألف ودفن بالمعلا. وكان والده الشيخ أبو عبد الله محمد بفتح أوله جليلاً ولد بإقليبية سنة ١١٩١ إحدى وتسعين ومائة وألف، وقدم إلى تونس في طلب العلم الشريف فقرأ على الشيخ صالح الكواش وغيره وتفقه وحصل حتى صار عالماً فاضلاً فقدمه الأمير حسين بأي لحظة الفتيا ببلد بنزرت فأقام بها إلى أن توفي ليلة الأربعاء سادس شوال سنة ١٢٥٣ ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ودفن امام ضريح سيدي عنان بنزرت عليه رحمة الله. وكان والده عبد الله ولد بإقلبية وتزوج هنالك برقية بنت محمد الزكراوي القليبي ووالدتها آمنة بنت الشريف الصالح الشيخ محمد الإمام، وأمها هي الشريفة العانس الجلازية فكان لابنه الشيخ المفتي شرف من قبل أمه حسبما نذكر نسبهأن وكان الأبر الحاج حسن السلاوي المغربي قدم من بلد سلا من عمل المغرب إلى تونس فنزل بإقلبية أواسط القرن الثاني عشر، والمتناقل عن بيتهم أنه من حفدة الولي الصالح الشيخ عبد الله بن حسون صاحب المشهد الفاخر ببلد سلا رضي الله عنه من بني حسون الأندلسيين أصحاب الذكر في مشاهير الأندلس وهو رجل من الصالحين الكمل قد تجمل به وسط القرن الحادي عشر، وقد نقل الحسن اليوسي في محاضراته عن الحاج الدلائي انه قال قدمت إلى الولي الصالح سيدي عبد الله بن حسون دفين سلا فقعدت إلى جنبه وقد مد رجليه، والأعراب متساقطون عليه يقبلون يده ورجليه، قال فخطر ببالي انه كيف أطلق هذا الرجل نفسه للناس هكذا قال: فلم يتم الخاطر وإلا وقد قال: أيها الناس رجل قيل له من مس لحمك لم تمسه النار أو لم تأكله النار أو نحو هذأن أو يبخل بنفسه على المسلمين، قال فلما سمعت كلامه وعلمت أنه على خاطري تكلم فتبت إلى الله تعالى في نفسي فجعلت إذا مد إليه أحد كاغداً وكان يكتب الحروز تلقيته من يده وناولته الشيخ وقبلت يده فإذا كتبه أخذته منه وقبلت يده فيحصل لأي في كل حرز قبلتان، قال ورأيت أموراً أشكلت علي منها أنه يؤتى بالثياب هدية وصدقة فيأمر بها فترمي في بيت وتبقى كذلك يأكلها السوس، ومنها انه في كل يوم يصبح عليه أهل الآلات فيضربون إليه. قلت أما الثياب فالذي يظهر من أمرها إما غنية حصلت للشيخ عنها وليس ذلك بمستنكر على أمثاله من المشتهرين في ذكره، وإما خارج مخرج القلنسوة التي رمي بها الإمام الشبلي في النار والمائة دينار التي رمي بها في دجلة وتأويل ذلك معروف عند أهل الطريق لا نطيل به وتأويل الآلات فإما أن يكون يستفيد من تلك الأصوات أسراراً أو معاني رضي الله عنه وعن سائر أولياء الله.
(وقد لحقت هنونة زوجتي المذكورة بالدار الآخرة يوم السبت بعد زوال خامس شوال سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، ودفنت بمقبرة السقائين من الزلاج ومن لطيف ما وصلني في شانها المكتوب الآتي نصه: المقام الذي نرجو من الله بقاء جنابه، وتعظيم أجره على عظيم مصابه، مقام الجهبذ العلامة، الذي لا يقوم غيره مقامه، قطب دائرة المعارف ومركزهأن وحائز قصبات السبق فيها ومحرزهأن قديم الود، وعديم الند، وزكي الأصل، وذكي الفصل، محرر المسائل، ومقنع السائل، ذلك الفذ الذي لا تسع كمالاته طروسي، الأمجد الأحسب والأبرع الأكتب أبو عبد الله الشيخ سيدي محمد السنوسي، أطال الله بقاءه، وأجزل على عظيم مصابه جزاءه.