ثم إن علاقة تونس مع فرنسا من وقت اخذ هاته الجزائر على النحو السابق من غير واسطة تركيا ولما قد إلينا احمد باي في سنة ١٨٤٣ أقتبل بكل ما يلزم من التعظيم للملوك والباب العالي لم يتوجع إذ ذاك من عملنا التعظيم الملوكي المذكور وكذلك جميع أوربا لم تلك على ذلك لأن رأيي موافق لرأي اللورد آبردين الذي يقول في تسجيله ضد أخذنا الجزائر المكتتب بتاريخ ٢٣ مارس ١٨٣١ إن الدول الأروباوية من مدة طويلة يفعلون المعاهدات مع الدول البربرية مثل الدول المستقلة وخصوصاً تونس فإنها لا تحسب نفسها غلا حرة، والدليل الواضح الحقي الذي لا ينكره أحد هو عمل القوانين في تونس المسماة (بويود لدي) حلف عليها الباي الموجود بتونس محمد الصادق لما جلس على الكرسي في ٢٣ أيلول سنة ١٨٥٩ مثل ما حلف أسلافه فإن قانوناً واحداً منها وهو المسمى بالقانون النظامي للملكة تونس قد احتوى على مائة وأربع عشرة مادة وانتشر بالعربي والفرنساوي في تونس وفي بونه ولم يصرح فيه ولو بكلمة واحدة تقول السلطان.
ومما لا يقدر أن يشك أحد معه في الاستقلال الباي ما نشر في الصحيفة الرابعة من المقدمة في ذلك القانون ونصه أن المتوظفين الكبار التونسيين اختاروه بكلمة واحدة ليكون رئيس الدولة على مقتضى قانون الوراثة المعروف في المملكة وفي ذلك القانون فصول تامة شرحت الحقوق الواجبات للملك وحالة الأمراء من العائلة الحسينية وحقوق وواجبات الرعايا وكيفية خدمة الوزراء وترتيب خدمتهم والمجلس الكبير بالمملكة والمداخيل والحساب ولا شك أن من يطلع عليها يقدر أن يجد ذلك البيان غريباً إذا أراد أن يقيس على رأينا الأروباوي ومع هذا فهو دليل واضح على استقلال مملكة تونس وأنها ليست تحت دولة أجنبية.
وجميع المعاهدات التي بين الدول الأروباوية ومملكة تونس منذ مدة الثلاثة قرون الأخيرة لم تقل أبداً إلا مملكة تونس، ملك تونس، ومنها خمس عشرة أو عشرون معاهدة أمضيت بفرنسا فيها ذلك القول، وفي سنة ١٨٦٨ المعاهدة التي وقعت مع إيطاليا مذكورة فيها الللكة تونس، وتونس أيضاً لم تسم نفسها في قانونها النظامي إلا اسم الذي أطلقته عليها جميع الدنيا وهي أرادت أن توضح المزية التي لها بالاستقلال والقدرة الموافقة له، فبناء على ما سبق من الأدلة القطعية والمتعددة فالباب العالي لا يقدر أن يتعجب من إنكار فرنسا لسيادته على تونس مهما طلب هو ذلك حتى إلى الآن ونحن نقر بأن الباب شدد في طلبه منذ خمسين سنة، وفي سنة ١٨٣٥ أدخل تحت سيادته طرابلس بعدها ضبط التحيير الهائل هناك وأراد أن يعمم سيادته على تونس إلا أن قوة فرنسا المضادة له منعه من مقصده وبعد عشر سنين أي في سنة ١٨٤٥ أتى (مابيخجي) السلطان إلى تونس ومعه فرمان ليقلد الباي منصب الولاية إلا انه لم يقبل منه، ثم مضت عشرون سنة من غير تجربة جديدة، ولكن في أواخر سنة ١٨٦٤ رجعت التخمينات القديمة وإنما هاته المرة كانت المملكة بنفسها هي التي طلبت التقليد ولكن هذا كان من الغريب إذ وقع من الأمير الذي هو حتى لذلك الوقت بعينه وهو يظهر المدافعة عن استقلاله وهذا إنما كان من الإشارات القوية التي خوفت الباي من حالته أمام الباب فأرسل لذلك أمير الأمراء خير الدين إلى القسطنطينية ليعرض ويأتي بالفرمان.