والتحقيق أن عبيد الله بن الحبحاب لم يدخل إلى إفريقيا سنة (١١٤) بل دخلها سنة (١١٦) كما جاء في فتوح إفريقيا والأندلس لابن عبد الحكم من أن هشام بن عبد الملك كتب إلى عامله على مصر بأن يسير إلى إفريقيا وكان مسيره في سنة ست عشرة ومائة، وابن عبد الحكم من رجال القرن الثالث الهجري، وهو في تاريخه يعتمد السند الذي يعتمده رجال الحديث، فكان ما يأتي به مدعماً.
وسنده هنا عن رجلين هما يحيى بن بكير، والليث بن سعد.
أما يحيى بن بكير فالصواب في اسمه أنه يحيى بن أبي بكير، وذكره ابن يونس في تاريخه بأنه: يحيى بن ابي بكير النخعي أبو زكرياء الكوفي، قدم مصر وحدث بها ومات بها في ربيع الآخر سنة ثلاثين ومائتين (من تهذيب التهذيب ج?١١ ص١٩٠) .
وهو ليس من رجال الصحاح الستة لكن لم يكن في المجرحين فهو ممن يعتمد عليه في الرواية.
وأما الليث بن سعد فهو الإمام المصري أبو الحارث.
وعرف به ابن حبان في الثقاب بقوله: كان من سادات أهل زمانه فقهأن وورعأن وعلمأن وفضلأن وسخاء وعدداه في الرجال الثقاب العلماء قريب من مالك الإمام الكبير وقد ولد سنة (٩٤) وتوفي سنة (١٧٥) .
وقد أطال ترجمته في تهذيب التهذيب في الجزء الثامن من (ص٤٥٩) إلى (ص٤٦٥) .
وإذا نظرنا إلى ترجمته نراه معاصراً لعبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا ومؤسس جامع الزيتونة، فإذا ما حدثنا أنه سار إلى إفريقيا سنة (١١٦) وهو الرجل الثبت علمنا علم اليقين أن سنة مسيره هي (١١٦) وبالطبع أن يكون تأسيس الزيتونة تلك السنة ويؤكد صحة ذلك أن الليث بن سعد كان إمام مصر فهو أعلم بأحوالها من غيره.
ولا يمكن أن يغلط في مسير والي مصر إلى إفريقيا إذ كان ذهابه إليها وهو في سن الشباب إذ أنه كان سنة ذهاب ابن الحبحاب ستاً وعشرين سنة مع أنه كان من احفظ أهل زمانه وأثبتهم، فالرواية عنه في هذه القضية تفيد القطع.
وما ذكره ابن عبد الحكم اعتمده المؤرخ الثبت ابن عذاري المراكشي صاحب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، وهو أحفل الكتب المؤرخة للمغرب والأندلس من القرن الألو الهجري حين وقع الفتح للمغرب إلى نصف القرن السابع.
اعتمده المذكور مبيناً أنه قدم إفريقيا في ربيع الآخر من سنة (١١٦) ونسب إليه كما ذكرنا بناء المسجد الجامع بتونس، وكذلك دار الصناعة والمسجد كما ذكره ابن عبد الحكم.
وعلى هذا الغرار سار ابن الأثير في تاريخه المسمى بالكامل فأتى بخبر مسيره إلى إفريقيا ضمن حوادث سنة (١١٦) : وفيها (أي سنة ١١٦) عزل هشام عبيد الله بن الحبحاب عن ولاية مصر واستعمله على إفريقيا فسار إليهأن وقيل بل ولي عبيد الله بن الحبحاب سنة سبع عشرة وسترد أخباره هناك، وهذا أصح.
(الكامل ج?٤ ص٢١٩) .
وابن الأثير هو أبو الحسن علي بن ابي المكارم محمد عز الدين الجزري المتوفى سنة (٦٣٠) ألف كتابه خلاصة لكتب التواريخ التي في مقدمتها تاريخ الطبري، وكتابه الكامل هذا له امتياز خاص، وهو أنه جمع فيه بين تواريخ المشرق والمغرب كما أشار إلى ذلك: (.. والشرقي منهم قد أدخل بذكر أخبار الغرب، والغربي قد أهمل أحوال الشرق فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً احتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددة مع ما فيها من الإخلال والإملال.
فلما رأيت الأمر كذلك شرعت في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق، والغرب، وما بينهما ليكون تذكرة لي أراجعه خوف النسيان، وآتى فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان، متابعة يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا) .
وقد انتهى ابن الأثير في تاريخه إلى حوادث سنة (٦٢٨) .
ووقف تاريخه عند ابتداء دخول سنة (٦٢٩) .
فهؤلاء العمد في التاريخ نواهم مطبقين على أن ابن الحبحاب كان دخوله إلى إفريقيا في سنة (١١٦) وبذلك لا يمكن ابتداء تأسيس مسجد تونس الجامع الذي سمي بالزيتونة إلا في تلك السنة.
٣ لماذا اختار ابن الحبحاب تونس لبناء مسجده؟ اعتاد المؤرخون أن يذكروا الحوادث دون أن يتعمقوا في الأسباب إلا في القليل النادر كما هنا يقتصرون على فقرة قصيرة، وهي أن ابن الحبحاب سار إلى تونس بأمر هشام بن عبد الملك في سنة (١١٦) وأسس مسجدها الجامع وبنى دار الصناعة بها.