ولما توفي ولي الله الشريف الشيخ سيدي محمد الصوردي يوم عاشوراء من المحرم الحرام عام تسعين ومائتين وألف، انتشر الشيخ بعد ذلك في الترداد على كثير من جهات البلاد، ثم لازم جامع الزيتونة مدة، واكثر جلوسه ومبيته فوق دانة سيدي منصور، وتارة يبيت بمقصورة سوق القماش، وهو على أكمل حالة الزهد في الدنيا، يلبس جبة من صوف ويتردى برداء، وعلى رأسه خرقة من الصوف وفي رجله بشمق، وتارة لا نعل في رجله، وهو مع ذلك من اعظم خلق الله هيبة وكمالاً، مع غاية الأدب والتفاني في الله، وقد نقل عن بعض أهل الله انه ولي غوثاً بعد القطبانية، وكراماته رضى الله عنه كفلق الصبح، ولم يزل أمر سلوكه وصحوه في تقدم وازدياد إلى أن أدركته المنية عن حال صحة آخر ليلة الثلاثاء العاشر من ربيع الأول سنة ١٢٩٨ ثمان وتسعين ومائتين وألف، وتوفي على جرد حصير متوسداً حجارة، وحسبه بذلك فخراً لزهده رضي الله عنه وأخرجت جنازته من دار حفيد عمه، وصلى عليه بجامع الزيتونة عند باب البهور، وحضر مشهد جنازته الأمير وآل بيته والوزراء وجميع العلماء وكافة الأهالي حتى أن جامع الزيتونة وجميع رحابه غصت بمن لم يعهد اجتماعهم لمن سواه، ودفن بزاويته قرب الجامع الحسيني، وقد رثيته فقلت: [الكامل]
ما للمشارب صفوها لا يحسنُ ... هل فارق الدنيا عليَّ محسنُ
إيهٍ لقد تاقت له الأخرى، لذا ... أخذته كي بكماله تتيمن
علمت بأنه بضعة المختار ذو الأ ... سرار من قد طاب منه المعدنُ
فهو الذي نادته حضرةُ قدس خا ... لقه إلى إدارك ما هو ممكن
وسقاه من كأس التفاني فاحتسى ... صفو الشراب لأنَّ سكره يزمن
فغدا نديماً في خدور صيانة ... ولغير من يهواه ما أن يسكن
ورأى الجمال وشاهد الإجلال والإ ... قبال في قرب له مستوطن
وحوى جلالاً من أجلَّ تعرّفٍ ... أبدا به فضلُ المعارف احسن
لا يستفيق من الغرام ملازماً ... لتأدبٍ فيه يحار الأفطنُ
يحيى الدياجي بالمناجاة التي ... أمسى بها في سره يتفنَّنُ
ولذا تبدَّى معرضاً عن كل ما ... في هاته الدنيا وغن هو يحسن
فالزهد فيها وصفه بين الورى ... ومتاعها أبدا عليه لهيَّنُ
مع أنه ملك التصرف في القطا ... بة واغتدى بكمالها يتزين
ورقى إلى غوثيةٍ يسمو بها ... في مجمعِ التصريف وهو الأمكن
يجري الإله على يديه جميع ما ... في عالم الدنيا غدا يتكون
والأولياء جميعهم من دونه ... وبذاك أنبا منهمُ منْ يعلن
وله بذا شهدت كرامات بدت ... متكاثرات حصرها لا يمكن
فخرٌ سما به من وراثة جده ... خير البرية شامه المستيقنُ
فيه اقتدى بعلي أبيه وجده ... لكنه اعلاه سبقٌ أيمنُ
ولكم لهم في بيتهم من سيد ... في الأولياء تراه وهو يلقَّن
ولكمْ بفضلهمُ استجار ذوو الرجا ... لله في خطب فصار يهوَّن
ولكم بهم في تونس الخضراء يس ... تقى الغمامُ وما تريَّثَ يدمن
لله ما شرفٌ على شرفٍ سما ... شرفاً، به الأشراف طرَّا تعلنُ
فليتَّعظ بمماته من قد درى ... بمقامه العالي، ففقدهُ محزنُ
وليعتبرْ أهل النهى بكمال من ... قد شيَّعوه متى دعاه الموطنُ
ولئن يكن دفنوه في قبر سما ... بالفخر منه ففضله لا يدفن
فليعقده المستمير منادياً ... له باسمه فله الإجابة ديدن
وليستغث به من يناجي ربَّه ... وليستجر به من تصبهُ الأعينُ
وليتخذه وسيلة لله في ... ما قد عرا فبه التوسل أعون
وليتخذ ذو النسك عنده خلوة ... فيها يرى متبتلاً لا يفتن
فهو الذي خلع الإله عليه من حلل الرضا خلعاً بها يتزين
وهو الذي قد نال سابغ رحمة ... عند الإله بها غدا يتمكن
والله مجَّدهُ فقلت مؤرخاً: ... في مجد رحمته عليَّ محسن