للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إنما يمنع النار شدة خضرتها، وكثر مَائِهَا، وَكَثَافَةُ وَرَقِهَا، وَعِظَمُ جِذْعِهَا، فَوَضَعَ أَمَرْهَا عَلَى هَذَا، فَوَقَفَ وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَقْتَبِسُهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَهْوَى إِلَيْهَا بِضِعْثٍ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتَبِسَ مِنْ لَهَبِهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ مُوسَى مَالَتْ نَحْوَهُ كَأَنَّهَا تُرِيدُهُ فَاسْتَأْخَرَ عَنْهَا وَهَابَ، ثُمَّ عَادَ فَطَافَ بِهَا فَلَمْ تَزَلْ تُطْمِعُهُ وَيَطْمَعُ بِهَا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ بِأَوْشَكَ مِنْ خُمُودِهَا، فَاشْتَدَّ عِنْدَ ذَلِكَ عَجَبُهُ وَفَكَّرَ مُوسَى فِي أَمْرِهَا فَقَالَ:

هِيَ نَارُ مُمْتَنِعَةٌ لَا يُقْتَبَسُ مِنْهَا وَلَكِنَّهَا تَتَضَرَّمُ فِي جوف شجرة فلا تحرفها هَمَّ خُمُودُهَا عَلَى قَدْرِ عَظَمَتِهَا فِي أَوْشَكَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ لَشَأْنًا ثُمَّ وَضَعَ أَمْرَهَا عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ أَوْ مَصْنُوعَةٌ لَا يَدْرِي مِنْ أَمْرِهَا وَلا بِمَا أُمِرَتْ وَلا مَنْ صَنَعَهَا وَلا لِمَ صُنِعَتْ فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا، لَا يَدْرِي أيرجع لم يُقِيمُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَمَى بِطَرْفِهِ نَحْوَ فَرْعِهَا فَإِذَا أَشَدُّ مَا كَانَ خُضْرَةً، وَإِذَا بِخُضْرَةٍ سَاطِعَةٍ فِي السَّمَاءِ يَنْظُرُ إِلَيْهَا تَغْشَى الظَّلامَ ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْخُضْرَةُ تُنَوِّرُ وَتُسْفِرُ وَتَبْيَاضُّ حَتَّى صَارَتْ نُورًا سَاطِعًا عَمُودًا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ عَلَى مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ تَلِي دُونَهُ الأَبْصَارُ كُلَّمَا نَظَرَ إِلَيْهِ تَكَادُ تَخْطَفُ بَصَرَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اشْتَدَّ خَوْفُهُ وَحُزْنَهُ، فَرَدَّ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَلَصِقَ بِالأَرْضِ، وَسَمِعَ الْحَسَنَ وَالْوَجَسَ، إِلا أَنَّهُ سَمِعَ حِينَئِذٍ شَيْئًا لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ بِمِثْلِهِ عِظَمًا فَلَمَّا بَلَغَ مُوسَى الْكَرْبَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْهَوْلُ، وَكَادَ أَنْ يُخَالَطَ فِي عَقْلِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ بِمَا يَسْمَعُ وَيَرَى نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَقِيلَ: يَا مُوسَى، فَأَجَابَ سَرِيعًا وَمَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ وَمَا كَانَ سُرْعَةُ إِجَابَتِهِ إِلا اسْتِبْشَارًا بِالأُنْسِ فَقَالَ: لَبَّيْكَ مِرَارًا إِنِّي لأَسْمَعُ صوتك وأحس وجسك ولا أرى مَكَانَكَ فَأَيْنَ أَنْتَ قَالَ: فَوْقَكَ، فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا مُوسَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ إِلا لِرَبِّهِ فَأَيْقَنَ، بِهِ فَقَالَ: كَذَلِكَ أَنْتَ يَا إِلَهِي فَكَلامَكَ أَسْمَعُ أَمْ رَسُولِكِ، قَالَ: بَلْ أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكَ، فَادْنُ مِنِّي فَجَمَعَ مُوسَى يَدَيْهِ فِي الْعَثَارِ ثُمَّ تَحَامَلَ حَتَّى اسْتَقَلَّ قَائِمًا فَرَعِدَتْ فَرَائِصُهُ حَتَّى اخْتَلَفَتْ وَاضْطَرَبَتْ رِجْلاهُ وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ وَانْكَسَرَ قَلْبُهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عَظْمٌ يَحْمِلُ آخَرَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ إِلا أَنَّ رُوحَ الْحَيَاةِ تَجْرِي فِيهِ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَرْعُوبٌ حَتَّى وَقَفَ قَرِيبًا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُودِيَ مِنْهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ «١» .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ بُورِكَ مَنْ في النار

[الوجه الأول]

١٦١٢٣ - حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثنا أَبُو دَاوُدَ، ثنا شعبة والمسعودي، عن عمرو


(١) . انظر الدر ٦/ ٣٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>