للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مثل المراد في قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)؛ لأن الرمي واقع من يد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولكن المراد نفي تأثيره؛ فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين، وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد؛ لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم؛ عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق؛ ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف. (١)

• الآية الرابعة:

قال تعالى حكاية عن موقف بعض الرسل مع قومهم: (قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (١٠) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [إبراهيم: ١٠ - ١١].

• بيان الاستدراك:

قال ابن عاشور: "قول الرسل: (إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) جواب بطريق القول بالموجَب في علم آداب البحث، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان محل الاستدلال غير تام الإنتاج، وفيه إطماع في الموافقة، ثم كرّ على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم. ونظيره قوله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: ٨].

وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر، فليس قول الرسل: (إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) تقريراً للدليل؛ ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله. ومحل البيان هو الاستدراك في قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، والمعنى: أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها، فالبشر كلهم عباد الله والله يمُنّ على من يشاء من عباده بنِعَم لم يعطها غيرهم.


(١) يُنظر: التحرير والتنوير (٩/ ٢٩٣ - ٢٩٦). ويُنظر: بديع القرآن (ص: ١١٨).

<<  <   >  >>