ولم يكن أحد من هؤلاء الأئمة يقلل من شأن غيره من نظرائه، ولا يعيب الاجتهاد على مخالفه، ولا يدعو الناس الى التزام مذهبه وما أداه إليه اجتهاده، بل حفظ عنهم أنهم كانوا ينصحون تلامذتهم باجتناب التقليد الأعمى، لأنهم غير معصومين من الخطأ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-:
"وهولاء الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقودونه، وذلك هو الواجب عليهم؛ فقال أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه: أبو يوسف بمالك، فسأله عن مسألة الصاع، وصدقهَ الخضراوات، ومسألة الأحباس، فأخبره مالك، يما تدل عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت.
ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأصيب وأخطئ , فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلامًا هذا معناه.
والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عوض الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي "مختصر المزني" لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، قال: مع إعلامه نَهْيَه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكًا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا" (١).
وإذا كان الأئمة أصحاب المذاهب على هذه المبادئ يسيرون، فالتعصب لهم من غير دليل ارتماء في عماية، وانزلاق في غواية، كما أن المفاضلة بينهم، وإقامة سوق الترجيح بين هذا المذهب وذاك، كل ذلك يعد تفريقًا بين أبناء الأمة الواحدة، وإثارة لأسباب الفرقة والشجار والخصام، لأن التمذهب ليس دينًا متزلًا، ولا شرعًا مقدسًا، وإنما هو ضرورة لابدّ منها للعامة، ومن يتدرج في طلب العلم ممن لم يبلغوا درجة النظر في الأدلة، ولأن المذهب الواحد لا يمكن أن يكون ملزمًا لجميع الأمة حتى يتعين تقليده