للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقد كانت بغداد مسرحًا للفوض وفقدان الإستقرار، وكان من أبرز مظاهر هذا الاضطراب تباعد في الطبقات الشعبية، وفشو الإستغلال والترف والبذخ في الطبقات العليا على حساب الطبقات الدنيا حتى أصبح الناس كما يقول مسكويه:"بين هارب جال، إلى مظلوم صابر، إلى مستريح لتسليم ضيعته إلى المُقْطَع ليأمن شره ويوائقه" (١).

وقد ازداد الحال سوءًا لكثرة الضرائب واشتداد وطأة الإقطاعات، وفرض الرسوم، واشتطاط عمال البويهين من جند وقواد ومتصرفين في تحصيل الأموال، واحتكار قوت الفقراء، والإعتداء على الناس، ومصادرتهم حتى ثارت الطبقة الفقيرة أكثر من مرة وخاصة في عهدي عضد الدولة، وصمصام الدولة.

وقال المقدسي يصف حال العراق سنة (٣٧٥ هـ):"إنه ييت الفتن والغلاء، وهو في كل يوم إلى الوراء، ومن الجور والضرائب في جهد وبلاء" (٢).

وأما الناحية الثقافية، فقد كانت على العكس من ذلك، قد ازدهرت وذهبت بعيداً في الإنتاج والإبداع. فقد كان الوزراء البويهيون يعنون عناية واضحة بالعلم والأدب، بل كان كثير منهم من جملة العلماء والأدباء الكبار، وكانت مجالسهم تضم كبار العلماء والأدباء، فيحوطونهم بالرعاية مما يشجعهم على تأليف الكتب، ونظم الأشعار في مدحهم والإشادة بفضلهم.

وفد كانت الري وأصفهان من مراكز الثقافة والعلم في شرق الدولة الإسلامية، ويخاصة في عهد البويهين، وقد تقدمت الحركة العلمية في الري بعد أن استقر فيها الوزير البويهى أبو الفضل ابن العميد، الذي تشبه بالبرامكة أيام الرشيد، ففتح بابه للعلماء والأدباء والشعراء، وكان هو الآخر أديباً عالمًا يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل: إن الكتابة بدئت بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وسمي بـ"الجاحظ الثاني"لمكانته الأدبية الرفيعة. وكان متبحراً في علوم الهندسة والمنطق والفلسفة. إلى جانب ذلك فقد أنشأ مكتبة عظيمة وعين أحد العلماء خازناً لها، وهو مسكويه (٣).


(١) مقدمة تحقيق الدكتور إبراهيم الكيلاني. لكتاب "مثالب الوزيرين" لأبي حيان التوحيدي، ص (ج) نقلاً عن "تجارب الأمم" لمسكويه.
(٢) المصدر السابق ص (د).
(٣) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص ١٨٤.