للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبعد، فهؤلاء الأريعة الذين عرفنا بهم: أبو يعلى، وأبو الخطاب، وأبو الفتح، وأبو الفرج، هم أساطين المذهب الحنبلي في بغداد خلال قرنين من الزمن (الخامس والسادس). وهذا لا يعني الغض من شأن غيرهم، كإبن عقيل وابن الزاغوني، وأبي حكيم النهرواني، وغيرهم، وهم كثر، ذلك لأن المقصود من هذا البحث هو بيان المسار العام للمذهب، دون الترجمة لأعيانه وفقهائه.

والحقيقة أن المذهب أخذ يتناقص في بغداد بعد ابن المنيّ، الذي يعتبر نقطة انعطاف في تاريخه، وجعل يتقوى في حرّان والشام على وجه الخصوص، كما تنوه كلمة ابن رجب السابقة في ترجمة ابن لمنّي.

ولا يخفى أن بغداد كانت موطنًا للمذهب الشافعي، ولا ريب فقد كانت المساجلات بين المذهبين تقوم من حين إلى آخر في شأن المناظرات الفقهية تارة، وفي شأن العقيدة وأصول الدين تارة أخرى، والسبب في ذلك أن كثيرًا من الشافعية كانوا على مذهب الأشعري في الإعتقاد، فكانت تقع الواقعات بينهم ولين الحنابلة بسبب الخلاف في مسائل الصفات وأخبارها على وجه الخصوص.

ومن تلك المساجلات ما وقع بين ابن القشيري والشريف أبي جعفر، تلميذ القاضي أبي يعلى، وكانت الخلافة إذ ذاك في جانب الحنابلة، والوزارة في جانب الشافعية إلا أن الوزير كان في تلك الأيام قويا نافذًا أمره (١).

بالإضافة إلى ذلك كانت المعتزلة مستمرة الوجود هي الأخرى في عاصمة الخلافة، وكان الحنابلة بالمرصاد في مواجهتها، ودحض شبهها، ومع ذلك فقد كاد يقع بعض كبار رجالاتهم في شركها في أول نشأتهم العلمية، فقد كان ابن عقيل (٥١٣ هـ) يتردد في أول أمره على ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما علم الكلام سرًا، ثم استدرك على نفسه بعد ذلك وأعلن توبته من تلك الأباطيل (٢).


(١) تفصيل هذه الواقعة في ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٩، والبداية والنهاية ١٢/ ١١٥ (حوادث سنة ٤٦٩ هـ). ومع هذا نقد كانت العلاقة بين الحنابلة والشافعية جد طيبة في الناحية الفقهية. ذيل الطبقات ١/ ١٤٧ - ١٥٦.
(٢) ذيل طبقات الحنابلة ١/ ١٤٤.