للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد تميزت المدينة النبوية بعد ذلك بالإنتساب إلى المذهب المالكي على وجه العموم إلى حدود القرن السادس.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المئة السادسة، أو قبل ذلك، أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم" (١).

وأشار ابن فرحون عند الكلام على توضّع المذاهب في البلاد الإسلامية إلى أن المذهب المالكي قد انتشر في الجزيرة العريية (٢)، وهو إنما يعني بذلك المدينة النبوية دون مكة المكرمة، بدليل أننا نجد في "شجرة النور الزكية" في طبقات المالكية، والتي رتبها مؤلفها على الأمصار، أنه يذكر من علماء الجزيرة العربية المدنيين بصفة غالبة. وبالتالي نستطيع القول: إن مكة حرسها الله لم تكن منتسبة لمذهب بعينه على مختلف العصور والدهور. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنها مجمع الفقهاء المتتسبين إلى بلدان شتى ومذاهب مختلفة، وإن غلب عليها المذهب الشافعي في الفتوى والتدريس في العصور المتأخرة.

وكان من جراء ذلك التجمع المتعدد للعلماء ومقلدتهم حول المسجد الحرام، أن أُنشئ أربعة مقامات (محاريب) في المسجد، كل مقام يختص لإمام مذهب من المذاهب المتبعة، فكانت الصلاة الواحدة تتكرر أربع مرات، ولا جرم أن ذلك يعدُّ لونًا من التفرق، ومظهرًا من مظاهر التمكين للتعصب المقيت الذي عرفته عصور الضعف، ومع ذلك فقد وقف بعض الفقهاء لى وجه ذلك التشرذم المنظم، فأفتوا بعدم جواز تكرار الصلوات من أجل حقوق المذاهب (٣).

وكان من حسنات الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رَحِمَهُ اللهُ- حينما دخل مكة، ونشر العدل والأمن فيها أن منع ذلك، ووحد المسلمين لإمام واحد، وأزال مظاهر التعصب المقيت لأي مذهب.


(١) مجموع الفتاوي ٢٠/ ٣٠٠.
(٢) الديباج المذهب ١/ ٢٦١، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة.
(٣) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لتقي الدين الفاسي، ١/ ٨٩، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.