وكانت المناطق المجاورة للحرمين من بلاد الجزيرة العربية، وخاصة نجدًا، تحتضن مختلف المذاهب، وربما كان ذلك امتدادًا للمدارس القديمة التي عرفت في البصرة والكوفة، ثم بغداد.
والذي يدل على ذلك، هو أن المطالع لمجموع الشيخ أحمد المنقور النجدي -رَحِمَهُ اللهُ- المسمى "الفواكه العديدة في المسائل المفيدة) يجد استمدادًا واضحًا من مختلف المذاهب بواسطة كتب فقهية كثيرة وقعت له، فهو ينقل منها بالنص والحرف.
وإذا كانت المذاهب الأربعة قد عاشت متجاورة في البلاد النجدية قرونا عديدة، فما هو السبب في غلبة المذهب الحنبلي في الأخير، وتفوته وازدهاره هناك؟
يبدو للدارس أن السبب في ذلك الإنتشار، وتلك الغلبة يعود إلى أن طلبة العلم النجديين كانوا يسافرون إلى المراكز العلمية المعروفة آنذاك، من مثل: الأحساء، والعراق، والشام، ومصر، والحجاز (مكة والمدينة)، ويتلقون علومهم العالية هناك، وكانوا يتبعون شيوخهم الذين يأخذون العلم عنهم.
فمن درس في الأحساء عاد مالكيًا أو حنفيًا، ومن درس في العراق عاد حنفيًا، ومن درس في مكة رجع شافعيًا، ومن درس في الشام تحنبل.
وبما أن نجدًا كانت في ذلك الوقت (القرن العاشر) وثيقة الصلة في الجانب الإقتصادي مع بلاد الشام، فإن الرحلات التجارية كانت رفدًا للرحلات العلمية وحافزًا لها ولا ريب، فكان الطالب يرحل بسهولة إلى الشام، فيتصل بدمشق ونابلس على وجه الخصوص، وهي معاقل الحنابلة آنذاك، فيتعلم، ثم يعود إلى بلاده فقيهًا حنبليًا.
فعلى سبيل المثال، نجد الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (٩٤٨ هـ) قد رحل إلى دمشق، بعد تلقي العلوم الإبتدائية في مسقط رأسه "العُيينة"، وسكن في المدرسة العمرية الشهيرة بالصالحية، وكانت حافلة بالعلماء والكتب النادرة آنذاك، فتضلع من أولئك العلماء، ونهل من تلك الكتب، وكان من أشهر شيوخه: جمال الدين يوسف بن عبد الهادي (٩٠٩ هـ) مؤلف "جمع الجوامع"، وعلاء الدين المرداوي (٨٨٥ هـ) مصحح المذهب، ومؤلف كتاب "الإنصاف"، وكان من أشهر زملانه في الطلب العلامة موسى الحجاوي المصري صاحب "الإقناع" (١).
(١) علماء نجد خلال ثمانية قرون، للشيخ عبد لله بن عبد الرحمن آل بسام، ١/ ٥٤٤، دار العاصمة.