فالعُيينة، وهي مسقط رأس شيخ الإسلام ومصباح الظلام أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب (١١١٥ - ١٢٠٦ هـ)، -رَحِمَهُ اللهُ-، وأكرم مثواه، لقاء جهاده في نصرة كتاب الله وسنة رسوله، كانت معقلاً من معاقل العلم، وكذلك أشيقر، حتى إنّه كان في الأولى في فترة من الفترات أكثر من ثمانين عالماً يدرسون العلم في جوامعها، متعاصرين في زمن واحد، وكان في الثانية أريعون عالماً في وَقت واحد، كلهم يصلح لتولي القضاء، في ذلك الوقت الذي لم يكن يصل فيه الى هذا المنصب إلا كبار العلماء وفحولهم. ولكن ضعفت الحركة العلمية فيهما بعدَ ذلك، وخلفتهما الدرعية والرياض (١).
وكذلك كانت مقرن وعنيزة، وغيرهما مقراً لطلبة علم، لهم قدم راسخة في المعارف، ومقراً لمدارس خرجت العديد من العلماء.
لقد نفذ المذهب الحنبلي عبر أقنية تلك المدارس، وحفظ في تلك المعاقل، وأخذ يتقوى ويسود بالتدريس، والإفتاء، والأقضية، وتجميع الكتب المصنفة فيه، إلى أن شمل المنطقة بسحابه الوادق الميمون. وقد ازدهر المذهب هناك خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر على وجه الخصوص.
لكن هناك فرقاً واضحاً بين فترة ما قبل الدعوة الإصلاحية التجديدية وفترة ما بعدها، فقد كان قبل ظهور الدعوة الإصلاحية فتور واضح سابغ على المنطقة برمتها، وكان جل اهتمام الناس بالفقه والمسائل الفرعية، فهم مقتصرون على بحث تلك المسائل، وتحريرها، وتحقيقها، وحفظ المتون واستيعاب الشروح وتدبيج الحواشي. أما العلوم الشرعية الأخرى فنصيبها قليل، وحظها زهيد، فالتوحيد مهمل، والتفسير منسي، والحديث مهجور، بل وعلوم اللغة واللسان لا تكاد تتجاوز "الآجرومية" وشروحها!!
وكان من نتيجة ذلك فشو البدع، وانتشار مظاهر الشرك، والغلو في الإعتقاد في الصالحين، وهكذا تكدر صفو الإسلام في تلك الأيام.
(١) ينظر في هذا وما بعده الكتاب القيم: علماء نجد خلال ثمانية قرون ١/ ١٥.