للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، ولزوم السنة، فقد علمتم ما حلّ بمن خالفها، وما جاء فيمن اتبعها، بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها". إلى أن قال: ولا تشاور أحداً من أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك" (١).

ولئن كان الإمام أحمد في أول أمره يحض أصحابه وينصح طلابه بعدم الخوض مع أهل البدع، وينهاهم أن يجادلوهم، باعتبار أن ذلك من الجدال المذموم في دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والمراء الممقوت في القرآن الكريم. فإنه قد عدل عن ذلك في آخر أمره، ورأى أن فريضة الذب عن الشريعة في أصولها وفروعها قد وجبت بعد ما استفحل أمر الزنادقة والجهمية والمرجئة، وصارت فتنهم تنفذ إلى قلوب الخواص والعوام في بغداد.

قال ابن مفلح -رَحِمَهُ اللهُ-:

"وقد صنف الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- ورضي عنه، كتاباً في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره، واحتج بدلائل العقول. وهذا الكتاب رواه ابنه عبد الله، وذكره الخلّال في كتابه (٢)، وما تمسك به الأولون من قول أحمد فهو منسوخ.

قال أحمد في رواية حنبل: قد كنا نُأمر بالسكوت، فلما دُعينا إلى أمرٍ ما كان بدٌّ لنا أن ندفع ذلك، ونبين من أمره ما ينفي عنه ما قالوه. ثم استدل لذلك بقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: ١٢٥] (٣).

ومن صور ذلك الجدال العلمي الذي حُفظ لنا عن إمام أهل السنة قوله: "من قال، القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله، وفيه أسماء الله ... [و] إذا قال الرجل: العلم مخلوق فهو كافر، لأنه يزعم أنه لم يكن لله علم حتى خلقه" (٤).

وبهذا فتح الإمام أحمد أمام أصحابه باباً للدفاع عن السنة ومحاججة المبتدعة باللسان والقلم، فتتابعوا يناظرون، ويؤلفون، حتى ملأت مآثرهم في ذلك سمع التاريخ وبصره.


(١) المصدر السابق ١/ ٣٤٢، ٣٤٤.
(٢) يعني بذلك "الجامع لعلوم أحمد".
(٣) الآداب الشرعية ١/ ٢٢٧.
(٤) من كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، ص ٩، ط. دار الكتب العلمية، ١٩٨٥. وانظر صورة أخرى من كتاب "الرد على الجهمية" في طبقات ابن أبي يعلى ٢/ ٤٨.