للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لما استولت تلك الحالة المأساوية الذاعرة على الشام جمع ابن تيمية جماعة من الأعيان، واتفق معهم على ضبط الأمور، وأن يذهب على رأس وفد منهم يخاطبون قائد التتار (قازان) في الإمتناع عن دخول دمشق. قال ابن كثير: وكلمه الشيخ تقي الدين كلاماً قوياً شديداً، فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ولله الحمد (١).

ويروي لنا بعض أصحابه صورة من ذلك اللقاء، فيقول:

كنت حاضراً مع الشيخ، فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل، ويرفع صوته، ويقرب منه ... والسلطان مع ذلك مقبل عليه، مصغ لا يقول، شاخص إليه، لا يعرض عنه، وإن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من الهيبة والمحبة سأل: من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله، ولا أَثبَتَ قلباً منه، ولا أَوْقَع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه، فأُخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل (٢).

وكان لذلك اللقاء أثره في دمشق إلى حين، وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم، إلا أن الأمور تغيرت بعد ذلك بسبب همجية التتار وإيغالهم في الفساد والتخريب، ففعلوا في دمشق الأفاعيل المنكرة الشهيرة (٣)، مما أثار غيرة ابن تيمية على الإسلام وأهله، فصار يحث على القتال قولاً وفعلاً، وأصدر بذلك عدة فتاوى مطولة في شأن التتار، والحكم فيهم، بعد أن علم من حالهم الداخلية أنهم ينتسبون إلى الإسلام بالإسم فقط (٤).

وقد استمرت جهود ابن تيمية في تلك الأيام قوية، لأن العامة رأوا فيه ناصرهم، وولاة الأمور رأوا فيه قوة لهم، وقد استمر على درسه يلقيه، ولم يكن طالب منصب يبتغيه (٥)، بل استمر مبتعداً عن المناصب، ولكن كان يؤخذ رأيه في تولية المناصب العلمية آنذاك، فإنه لما توفي ابن دقيق العيد سنة ٧٠٢ هـ، وكان شيخاً لدار الحديث، أشار ابن تيمية بتعيين الشيخ كمال الدين الشريشي في محله، كما أشار بتعيين من اختارهم للخطابة ولرياسة المدارس المختلفة (٦).


(١) البداية والنهاية ١٤/ ٧.
(٢) ابن تيمبة لأبي زهرة، ص ٣٧، نقلاً عن "القول الجلي".
(٣) البداية والنهاية ١٤/ ٨ - ٩. ط. دار هجر.
(٤) مجموع الفتاوي ٢٨/ ٥٠١، ٥٠٩، ٥٨٩.
(٥) قال ابن رجب في الطبقات (٢/ ٣٩٠): عُرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئاً من ذلك.
(٦) البداية والنهاية ١٤/ ٢٨.