للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الغاشمين على السواء. وكانت تلك المواقف قد أثمرتها شجاعته النادرة، وجرأته في الحق التي امتحن بسببها عدة مرات في الشام ومصر، وفَوقَّت إليه سهام النقد من أعدائه وخصومه، كما قال الشاعر (١):

حَسَدوا الفتى إذ لم ينالوا سَعْيَه ... فالقومُ أعداءٌ له وخصومُ

كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجهِهَا ... حسداً وبَغْياً إنه لدَميمُ

فمن مواقفه مع بعض حكام عصره:

أنه بلغه في سنة ٦٩٣ هـ أن نصرانياً سب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وآوى إلى أحد العلويين، فحماه من غضب العامة، فثارت حمية الشيخ وغيرته على سيد الخلق، فاصطحب معه شيخ دار الحديث، وذهب إلى نائب السلطنة بدمشق (٢)، فكلماه في ذلك، فأرسل إلى النصراني، فحضر ومعه بدوي، فأغلظ القول للعامة المتجمعين، فحصبوهما بالحجارة، فأوذي الشيخ وصاحبه من قبل النائب بدعوى التحريض على ذلك.

وانتهت القصة بإسلام ذلك النصراني، واعتذر نائب السلطنة من الشيخين، وبهذه المناسبة ألف الشيخ كتابه المشهور "الصارم المسلول على ساب الرسول" (٣).

فهذه القصة تدل على أن الشيخ لم يكن قابعاً في زوايا التدريس والتعليم، غافلاً عن شؤون المجتمع، بل كان حارساً للرأي العام الإسلامي، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ملتزماً في ذلك ضوابط الشرع وحدوده من تبليغ أولي الأمر ما يحدث في سلطتهم مما هو من مسؤولياتهم، ولا يخشى في ذلك لومة لائم.

ولما غزا التتار الشام سنة ٦٩٩ وهزموا عساكر الناصر بن قلاوون، وشتتوهم شذَر مذَر، بعد أن أبلى الجميع بلاء حسناً، فولى جند مصر والشام الأدبار، واجتازوا دمشق إلى مصر لائذين بالفرار، ومعهم أعيان العلماء والقضاة والوجهاء، حتى صار البلد شاغراً من الحكام والكبار (٤).


(١) هو أبو الأسود الدّؤلي، والبيتان من قصيدة له متوسطة، وهي في ديوانه: ١٢٩ - ١٣٢ والخزانة ٣/ ٦١٧. والبيان ٣/ ٢٥٩.
(٢) وهو الأمير عز الدين أيبك الحموي.
(٣) البداية والنهاية ١٣/ ٣٣٥.
(٤) البداية والنهاية ١٤/ ٦ - ٧.