للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كما بزغت شمس المناظرات والمساجلات بين الفقهاء، وكذلك بين علماء الكلام من المعتزلة والجهمية والمرجئة وغيرهم، وكانت مجالس المأمون مشهورة بذلك الجدل وتلك المناظرات، مما يدل على أن المذاهب في الفقه والكلام أصبحت يانعة ناضجة الثمار، لها رجالها الذابون عنها، وخصومها المحاججون لها الرادون عليها.

وقد صور ابن قتيبة الجانب السلبي مما كان في تلك المناظرات والإحتكاكات، فقال: وكان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله لينتفع وينفخر، فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع، ويجمع ليُذكر، ويحفظ ليغالب ويفخر. وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس، فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع، وفيما قد انقرض من حكم الكتابة وحكم اللعان ورجم المحصن، وصار الغرض فيه إخراج لطيفةٍ وغوصًا على غريبةٍ، وردًا على منقدم، فهذا يرد على أبي حنيفة، وهذا يرد على مالك، وآخر يرد على الشافعي بزخرف من القول، ولطيف من الحيل، كأنه لا يعلم أنه إذا رد على الأول صوابًا عند الله بتمويهه فقد تقلد المآثم عن العاملين به دهر الداهرين. وهذا يطعن بالرأي على ماض من السلف، وهو يرى، وبالإبتداع في دين الله على آخر، وهو يبتدع.

وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر، وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الإستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى.

وكان آخر ما وقع من الإختلاف أمرًا خص بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالإتباع قاهرين يداجون بكل بلد ولا يداجون، ويستتر منهم بالنحل ولا يستترون، ويصدعون بحقهم الناس ولا يستغشون، لا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلَّا من وضعوا (١).


(١) الإختلاف في اللفظ، لإبن قتيبة ص ١٠ - ١٢. تصوير دار الكتب العلمية.