وكان من هؤلاء الفقهاء من زكى علمهم، وتوسع نظرهم في الفروع العملية، فرويت عنهم آلاف المسائل مما أفتوا فيه، وتوفر لهم من الأصحاب ما لم يتوفر لغيرهم، فاعتنوا بتلك المسائل، فحفظوها وجمعوها ودونوها، وقرأوها على الطلاب في المجالس.
ثم جاء بعدهم من رتبها وهذبها وحررها وبسطها، وخرج عليها فروعاً كثيرة، واحتج لها من دلائل الكتاب والسنة والإجماع، وفقه الصحابة والتابعين، ومن جهة القياس ومعقول الأصول المقررة.
وهكذا نشأت المذاهب الفقهية المشهورة المعروفة، فاشتغلت بها الأمة، وتفقهت عليها أجيالها وبثت مسائلها في الدروس والطروس، وجرت عليها الأقضية في الأمصار، والفتوى فيما يعوض للناس في شؤون عباداتهم ومعاملاتهم.
وقد استوعبت هذه المذاهب قي مجموعها، عامة فقه السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الذين لم يكتب لفقههم من الإشتهار والتدوين ما كتب لأصحاب هذه المذاهب، كالثوري والأوزاعي وأبي ثور وابن شبرمة والليث بن سعد؛ رحمهم الله جميعاً وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وكان الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، المروزي ثم البغدادي، رحمه الله وأجزل مثوبته، أحدَ أئمة هذه المذاهب؛ برز فقهه في المسائل التي دونها عنه جماعة من أصحابه في بغداد، وجمعها وصنفها كتباً وأبواباً في ديوانه الجامع، أبو بكر أحمد بن هارون الخلال،