للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ونشأ الإمام أحمد يتيمًا في حجر أمه في بغداد، وترعرع فيها، وإن كانت الأخبار عن حياته المبكرة شحيحة قليلة، إلا أننا نستطيع أن نعرف بصورة عامة أنه كان يقضي آنذاك معظم وقته في كتاتيب بغداد التي كانت تزخر بالنشاط العلمي، فقد ذكر الخلال عن محمد بن الحسين عن المروذي، قال: "قال لي أبو عفيف وذكر أبا عبد الله أحمد بن حنبل فقال: كان في الكُتّاب معنا، وهو غُلَيِّم نعرف فضله، وكان الخليفة بالرقة، فيكتب الناس إلى منازلهم الكتب فيبعث نساؤهم إلى المعلم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل ليكتب لهن جواب كتبهن، فيبعثه، فكان يجيء إليهن مطأطئ الرأس، فيكتب جواب كتبهن، فربما أملين عليه الشيء من المنكر فلا يكتبه لهن" (١).

وهذا يدلنا على نبله وعقله وخلقه في صباه.

ويذكر المؤرخون أن داود بن بسطام كان مسؤولًا من قبل الخليفة عن أخبار بغداد في تلك الأيام، فاتفق له مرة أن أخرت عنه جريدة الأخبار، فبعث إلى عم الإمام أحمد يستفسره عن سبب ذلك، فقال له: بعثت بها مع ابن أخي؛ يعني أحمد بن حنبل، وكان أحمد ألقى بها في الماء، واستنكر أن يوصلها إليه، ولعل ذلك لما كان فيها من الوشايات والأنباء التي لا ترضي دين الإمام أحمد وخلقه الرفيع (٢).

وكانت الكتاتيب في ذلك الوقت تعلم اللغة العربية، وتحفظ القرآن للأطفال. فقد قال ابن قتيبة في ذكر أسماء المعلمين: ومن المعلمين: علقمة بن أبي علقمة، مولى عائشة، كان يروي عنه مالك بن أنس، وكان له مكتب يعلم فيه العربية والنحو والعروض، ومات في خلافة المنصور (٣).


(١) المناقب، لإبن الجوزي، ص ٤٣.
(٢) المصدر السابق ص ٤٤ - ٤٥. قال الذهبي في كتاب "السير" (١١/ ١٨٦): وذكر الخلال حكايات في عقل أحمد وحياته في المكتب وورعه في الصغر. ولم ينقل لنا شيئًا من ذلك.
(٣) المعارف، ص ٥٤٩. وذكر الشيخ أبو زهرة -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه "ابن حنبل" (ص ٢٠) أن الإمام أحمد أتمَّ حفظ القرآن في صغر في المكتب. ولكن أورد ابن الجوزي في "المناقب" (ص ٥٧) قصة رواها الخلال تفيد أنه انقطع عن حفظ القرآن لما شغله الحديث، ولم يتم حفظه إلا في السجن في أيام المحنة.