للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عنها فواكه الفصول الأربعة، بل جمعت فيها كل ألوان الملذات التي عرفت في ذلك الوقت، حتى إن شعبة بن الحجاج قال لأبي الوليد: أدخلت بغداد؟ قال: لا، قال: فكأنك لم تر الدنيا. ومثله يروى عن الشافعي في قوله ليونس بن عبد الأعلى (١).

بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت أعطيات السلاطين والخلفاء وجوائزهم للعلماء معروفة مشهورة، وقد عرض ذلك على الإمام أحمد خصوصًا بعد انكشاف المحنة في زمن المتوكل، فرفض ذلك كله -رَحِمَهُ اللهُ-، فكان كما قال البوصيري:

راودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراها أيما شمم

فأخباره في زهده وتعففه وتظلفه تملأ المجلدات، ونحن نجتزئ بالقدر الذي يفي بالغرض ويصور حياته هناك في بغداد -عليه رحمة الله-:

كان في أول الأمر يعيش مع زوجته الأولى عباسة، وولده الوحيد صالح نحوًا من عشر سنوات على حال وصفها ابنه صالح فقال: "ربما رأيت أبي يأخذ الكسَر ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة، ويصب عليها ماء، ثم يأكلها بالملح، وما رأيَته اشترى رمانا ولا سفرجلًا ولا شيئًا من الفاكهة، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز، وعنبًا وتمرًا ..

وقال لي: كانت والدتك في الغَلاء (٢) تغزل غزلًا دقيقًا، فتبيع الإستار (٣) بدرهمين أو أقل أو أكثر، فكان ذلك قوتنا. وكنا إذا اشترينا الشيء، نستره عنه كيَلا يراه، فيوبخنا، وكان ربما خبز له، فيجعل في فخّارة عدسًا وشحمًا وتمرات شِهْرِيز -نوع من التمر- فيجيء الصبيان، فيصوت ببعضهم، فيدفعه إليهم، فيضحكون ولا يأكلون، وكان يأتدم بالخل كثيرًا" (٤).

فلما توفيت أم صالح، وكان سن صالح إذ ذاك يقارب العاشرة، تزوج ريحانة وأسكنها في دار كان قد ورثها من أبيه وحولها جوانب مؤجرة يعيش من غلتها. قال الخلّال: وأخبرني


(١) تاريخ بغداد ١/ ٤٥.
(٢) في "السير": (الظلام).
(٣) الإستار: وزن أربعة مثاقيل ونصف، والجمع: أساتير، فارسي معرب "اللسان": (ستر).
(٤) السير ١١/ ٢٠٩، المناقب ص ٣٣١.