للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذه الحوادث لم تكن لتترك بغداد هنيئة بالعلم والمعارف والإزدهار الثقافي الذي بكون من وراء الإستقرار السياسي والاجتماعي.

ثم إن الأمور لم تتحسن بعد ما أفضت الخلافة للمأمون، ففي سنة ٢٠١ هـ امتلأت بغداد بالشغب والفساد بسبب فساق الحربية (١) والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ، فآذوا الناس أذى شديدًا، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق. نخرج المتطوعون للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك (٢).

وكان الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- يعيش تلك الأيام العجاف، ويذكر لنا المؤرخون أنه لم يجلس للناس يحدث ويعلم ويفتي إلا بعد تصرّم الأربعين من عمره، أي بعد سنة ٢٠٤ هـ.

قال ابن الجوزي: "اعلم أن أحمد - رضي الله عنه - كان يفتي في شبابه في بعض الأوقات ويحدث إذا سئل ولا يعتبر سن نفسه .. فقد قال القومسي: رأيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في مسجد الخيف بمكة في سنة ١٩٨ هـ مستندًا الى المنارة، وجاءه أصحاب الحديث فجعل يعلمهم الفقه والحديث ويفتي الناس في المناسك ..

قال: إلا أن الإمام أحمد - رضي الله عنه - لم يتصدر للحديث والفتوى، ولم ينصب نفسه لهما حتى تم له أربعون سنة" (٣).

ولا نعلم الأسباب التي جعلته يتحامى أن يتصدر إلى هذا السن، وقد حاول الشيخ أبو زهرة -رَحِمَهُ اللهُ- أن يعلل ذلك بالإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: وعندي أن أحمد كان متبعًا للسنة لا يحيد عنها، كان يفعل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ولا يفعل ما لم يفعله، حتى إنه كان اذا احتجم أعطى الحجام دينارًا؛ لأنه روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى أبا طيبة دينارًا (٤)، وأنه تسرى مع عدم رغبة الطبيعة فيه، بل تسرى؛ لأنه علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسرى، وقد استأذن زوجته في ذلك، فأذنت له لتعينه على الإتباع. إذا كان أحمد حريصًا على الإتباع في هذه الأمور التي تضمن صغار الأعمال، فأولى أن يكون متبعًا في


(١) وهم جند من المرتزقة كانوا ببغداد.
(٢) تاريخ الطبري ٨/ ٥٥٢، واين كثير ١٤/ ١١٨.
(٣) المناقب، ص ٢٤٣ - ٢٤٤.
(٤) الحديث أخرجه البخاري في الطب، باب (١٣) الحجامة في الداء، حديث (٥٦٩٦)، ومسلم في المساقاة، باب (١١)، حلّ أجر الحجامة، حديث (١٤٧٧)، من حديث أنس - رضي الله عنه -.