صح منها وما طُعن فيه. وكنت أَتَوانَى عن هذا لسببين، أحدهما: اشتغالي بالطلب. والثاني: ظني أن ما في التعاليق من ذلك يكفي. فلما نظرت في التعاليق رأيت بضاعة أكثر الفقهاء في الحديث مزجاة، يعوِّل أكثرهم على أحاديث لا تصح، ويُعرض عن الصِّحاح، ويقلِّد بعضهم بعضًا فيما ينقل. ثم قد انقسم المتأخرون ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قوم غلب عليهم الكسل، ورأوا أن في البحث تعبًا وكلفة، فتعجلوا الراحة، واقتنعوا بما سطره غيرهم.
والقسم الثاني: قوم لم يهتدوا إلى أمكنة الأحاديث، وعلموا أنه لابد من سؤال من يعلم هذا، فاستنكفوا عن ذلك.
والقسم الثالث: قوم مقصودهم التوسع في الكلام طلبًا للتقدم والرياسة، واشتغالهم بالجدل والقياس، ولا التفات لهم إلى الحديث؛ لا إلى تصحيحه ولا إلى الطعن فيه. وليس هذا شأن من استظهر لدينه، وطلب الوثيقة في أمره ... إلى أن قال: ورأيت جمهور مشايخنا يقولون في تصانيفهم: دليلنا ما روى أبو بكر الخلال بإسناده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ودليلنا ما روى أبو بكر عبد العزيز بإسناده .. ودليلنا ما روى ابن بطة بإسناده .. وجمهور تلك الأحاديث في الصحاح وفي "المسند" والسنن" (١). اهـ.
وهذه المقدمة تُبين عن منهاج المصنفين في الخلاف بعامة، وتكشف جوانب الضعف في الإنتصار لمذاهب الأئمة في تلك الكتب، عند التعامل مع السنة أخذًا وردا.
ويعتبر كتاب "التحقيق" من أهم المصادر في نقد أحاديث الأحكام وبيان أحوالها، أسانيد ومتونًا، ولهذا اعتمد عليه الزيلعي في "نصب الراية" اعتمادًا كبيرًا. ثم إن ابن الجوزي أخذ في تخريج أحاديث التعليق بإسناده على شرطٍ ذَكَره هو. ومنهجه في ذلك بأن يذكر المسألة، فيقول مثلًا: "مسألة: الطَّهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره" ثم يفيض في بيان الحديث، فيذكره أولًا
(١) التحقيق: ١/ ٢٢ - ٢٣، ط. دار الكتب العلمية، ١٤١٥ هـ، و"المدخل" لإبن بدران ص ٤٥٢ - ٤٥٤.