للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معاملتهم له على نحو ما يقتضيه معنى البراءة الذي جاءت به الشريعة إزاء أهل الكفر من المشركين (١)، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

والذي يجب التنبُّه له هنا هو أن من أفتى بتحريم إنشاء بنوك الحليب أو التعامل معها أفرادًا كانوا أو مجامعَ بناء على حال المحكوم عليه آنذاك؛ من إهمال تمييز حليب المرأة المؤدي إلى نكاح من حرم الله تعالى، أو كشف عورات المراضع أمام من لا تحل له، أو غير ذلك مما تمنعه الشريعة، ثم هو أفتى أو غيره فيما بعد بالجواز بناءً على معطيات لا شيء فيها يوجب الحظر؛ سواء أكانت المعطيات التي جاءت الفتيا إزاءها على صيغة مشاريعَ ورقية أو مؤسساتٍ على أرض الواقع؛ فإن فتوييه جارية على وفق مقصود الشارع؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ فبنك الحليب يكون التعامل معه محرمًا إذا استلزم ما حرَّم الله، وحلالًا إذا سلم من ذلك على الأصل، وقس على هذا كثيرًا من النوازل التي حكم الفقهاء بتحريمها حين لم يمكن تناولها على وجه مباح، ثم تغير الحكم مع انتفاء العلة المحرِّمة، تمامًا كالعنب؛ يحرم بيعه لمن يتخذه خمرًا، ويجوز لمن يتفكَّه به أكلًا، وإذا احتُمل الأمران؛ كان الحكم للغالب، ومن هنا يُعلم أن بعض الدعاوي التي تقذِف الفقهاء بالتناقض، أو التقلب بماجريات الزمن؛ واهية؛ لأنها قائمة على تشخيص سطحي خالٍ من الفحص والتمييز، وهذا بطبيعة الحال لا يمنع الفقهاء أن يكتسبوا روية وأناة قبل إطلاق الفتاوي، حتى تكون وافية الفحص، مستوفية التوصيف؛ لاتنطلق من برج عاجٍ، أو تنبثق عن ارتجال نازٍ؛ بلفظ فضفاض، غير محرر المعالم.

وحيث كانت هذه النازلة من أقدم مسائل هذا البحث وقوعًا وأكثرها بحثًا؛ استدعى تراكمُ الفتاوي واختلافُ منازعها هذا التوضيحَ، والله تعالى أعلم.

- سبب الخلاف: يمكن أن يعاد الخلاف إلى ما يأتي من الأسباب:

١ - مفهوم سد الذريعة، وحدود استعماله.

وأختم هذا المطلب ببيان النتائج الآتية:

أولًا: جواز إنشاء بنوك حليب الآدميات، وإذا توقفت حياة الرُّضَّع عليه صار فرض كفاية على المسلمين.

ثانيًا: جواز التبرع بلبن الآدميات إلى بنوك الحليب أو بيعه فيها؛ إذا زاد عن حاجة مولودها، أو لم يلزمها إرضاعه أو يمكنها، ولو كان من غير مسلمة، أو فاجرة، أو حمقاء، أو عمياء، أو جذماء، أو برصاء، أو مجنونة، أو سكرى، أو ميتة (٢)، أو غير ذلك من العيوب والعلل التي لا تضر بالرضيع ضررًا متحققًا (٣)، وجواز ابتياعه منها، ولو لكبير، أو لمن لا يدين بالإسلام؛ إذا كان المبيع معلومًا معينًا، ويضمن ما تلف منه إذا اعتدي عليه، ويثبت به التحريم؛ إذا بلغ العدد المجزئ (٤)؛ في السن المجزئ، ويندب للبنوك والمتعاملين معها مؤسساتٍ وأفرادًا؛ اختيار الأصلح للرضيع والتعامل مع الأسلم.

ثالثًا: طهارة لبن الآدمية؛ فلا تَنجس به أرضٌ، ولا لباسٌ، ولا شيءٌ خلط به، أو سرت إليه رائحته.


(١) ابن كثير: البداية والنهاية (١٦/ ١٤٢).
(٢) ينظر في تأصيل هذه المسألة: المسألة الأولى من مسائل المطلب الأول في المبحث الثالث من الفصل الثالث.
(٣) ينظر في تأصيل هذه المسألة المبحث السادس من مباحث الفصل الثالث.
(٤) ينظر في تحقيق المسألة المبحث الأول من مباحث الفصل الثالث.

<<  <   >  >>