للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويمكن أن يناقش بما يأتي: أ- إن هذا مسلم فيما إذا استهلك أحد المخلوطين في الآخر، ولا يُسَلَّم بأن حليب الآدمية تتلاشى عينه أو تستهلك فيما خلط معه من ألبان الآدميات الأخريات، ولو كان مغلوبًا؛ إذا كان يكفي أن يكون رضعة مشبعة لو كان منفردًا.

٣ - إن النقطة من الخمر لا يحد عليها إذا استهلكت مطلقًا، فكذا كل ما يستهلك في غيره؛ كالحليب المغلوب خلطًا بغيره. (١)

ونوقش بما يأتي: أ- إن النقطة من الخمر إذا اختلطت لا تسكر، ولا تصلح للإسكار مع أمثالها؛ فظهر الفرق (٢)، والمعنى: أن عدم الإسكار لا يمنع حصول الاغتذاء.

أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني:

١ - إن الجنس لا يغلب الجنس؛ فإن الشيء لا يصير مستهلكاً في جنسه؛ لأن كل واحد منهما لا تأثير له في سلب قوة الآخر؛ لاتحاد المقصود.

والدليل على ذلك: أن رجلاً لو غصب من رجل زيتًا، فخلطه بزيت آخر؛ اشتركا فيه، ولو خلطه بشيرج أو دهن من غير جنسه؛ اعتبر الغالب؛ فإن كان الغالب هو المغصوب كان لصاحبه أن يأخذه، ويعطيه بقسط ما اختلط بزيته، وإن كان الغالب غير المغصوب؛ صار المغصوب مستهلكاً فيه، ولم يكن له أن يشاركه، ولكن الغاصب يغرم له مثل ما غصبه؛ فدل ذلك عل اختلاف حكم الجنس الواحد، والجنسين. (٣)

٢ - إنه لو شيب بماء أو عسل؛ لم يخرج عن كونه رضاعًا محرمًا، فكذلك إذا شيب بلبن آخر. (٤)

- الترجيح: سبق قريبًا حكاية الإجماع على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والأدلة في ذلك لا تفرق في ثبوت التحريم بين حليب الآدمية إذا تناوله الرضيع منفردًا أو مختلطًا بغيره، ولذلك كان الراجح مما تقدم القول بتعلق التحريم بجميع الآدميات اللائي خلط لبنهن، ولو كان بعضها مغلوبًا؛ مع مراعاة شروط الإجزاء في عدد الرضعات وسن الرضيع، ويشترط لذلك أن يكون حليب الآدمية الواحدة يصلح أن يكون رضعة واحدة مشبعة لو انفرد عما خلط معه من ألبان الآدميات.

وهذا ما يفهم من تقريرات كثير الفقهاء، وجريان كثير من تحقيقاتهم على اعتباره؛ فانظر إلى محمد بن الحسن الشيباني حين استدل على كون الرضاع واقعًا من كلا الزوجين في مسألة حمل المرأة من زوج ثان وإرضاعها في أثنائه من لبن كان مبدأ ثيابته من ولد ولدته من زوجها الأول؛ حيث جعله بمنزلة لبن امرأتين امتزجا في قدح واحد؛ فأوقع الرضاع منهما (٥)، ومن ذلك: ما صرح به أبو محمد ابن قدامة ت ٦٢٠ هـ في قوله: وإن حلب من نسوة، وسُقيه الصبي؛ فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن؛ لأنه لو شيب بماء أو عسل، لم يخرج عن كونه رضاعًا محرمًا، فكذلك، إذا شيب بلبن آخر ا. هـ (٦)، وبنحوه قال شمس الدين ابن قدامة ت ٦٨٢ هـ (٧)، وقال الحجاوي ت ٩٦٨ هـ: "فإن حلب اللبن من نسوة، وسقي الطفل؛ فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن" (٨)؛ قال البهوتي ت ١٠٥١ هـ: "لاختلاط لبنهن" (٩).

- ثمرة الخلاف: ترتب على الخلاف في هذه المسألة أثر في فروع، منها:

١ - أثر اعتبار المغلوب لبنها إذا خلط بلبن غيرها من الآدميات على ثبوت التحريم للزوج إذا كان له زوجتان.

فمن جعل التحريم لأكثر الحليبين المخلوطين دون أقلِّهما - وهو قول للحنفية والشافعية، ومذهب المالكية -؛ لم يثبِت للزوج أربع رضعات إذا حلبت كل واحدة من زوجتيه لبنها دفعة، ثم خلطا، فشربه الرضيع مرتين، وهو ما صرح به الشافعية في وجه عندهم (١٠)، ومقتضى التخريج على أصحاب القول الأول عند من يشترط عددًا.


(١) ينظر: القرافي: المصدر السابق، (٤/ ٢٧٦).
(٢) ينظر: القرافي: المصدر السابق، (٤/ ٢٧٦).
(٣) ينظر: الجصاص: المصدر السابق، (٥/ ٢٧٧ - ٢٧٨). الميداني: المصدر السابق، (٤/ ٨٤).
(٤) ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (١١/ ٣١٦). شمس الدين ابن قدامة: المصدر السابق، (٢٤/ ٢٤٢ - ٢٤٣).
(٥) ينظر: الجصاص: المصدر السابق، (٥/ ٢٧٥).
(٦) ابن قدامة: المصدر السابق، (١١/ ٣١٦).
(٧) شمس الدين ابن قدامة: المصدر السابق، (٢٤/ ٢٤٢ - ٢٤٣).
(٨) الحجاوي: الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (٤/ ١٢٦).
(٩) البهوتي: المصدر السابق، (١٣/ ٨٨).
(١٠) ينظر: النووي: المصدر السابق، (٩/ ١٣ - ١٤).

<<  <   >  >>