للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي يوم الخميس الثامن عشر من صفر قدم القاضي بهاء الدين أبو البقاء (١) من طرابُلُس بمرسوم شريف أن يعودَ إلى دمشقَ على وظائفه المبقاة عليه، وقد كان ولده ولي الدين ينوب عنه فيها، فتلقَّاه كثير من الناس إلى أثناء الطريق، وبرز إليه قاضي القضاة تاج الدين (٢) إلى حَرَسْتَا، وراح النَّاس إلى تهنئته إلى داره، وفرحوا برجوعه إلى وطنه.

شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء، في ليلة الجمعة حادي عشره كانت زفَةٌ هائلةٌ لابن ملك الأمراء وهو أمير علي بن أسَندَمِر نائب السلطنة، أقبلت بشموع من ناحية القبيبات "والعريس (٣) في أبهة لم يرَ أهل البلد مثلها في كثرة الشموع الضِّخام، والهيئة الحسنة، وكان مبلغ ما حُرِرَ من الشمع ما يقارب مئة قِنطار من الصّغار والكبار، ومنها عدَّةٌ كثيرة، قنطارٌ قنطارٌ. وقد خرج غالب أهل البلد للتفرج عليها.

وبعد أيام مُسك متولي البلد، وضربه نائب السلطنة، وألزمه بمالٍ بشيء نقمَهُ عليه، وسلّمه إلى شادّ الدواوين ليستخلص منه مالًا، فضربه الآخر بالمقارع، وأُخذَ معه بعضُ المعرّفين، وضربوا بالمقارع، وصُودروا بمالٍ جزيل. وأعيد المعرّفون (٤) الذين كانوا قد ضربوا مثل ذلك، وكتب عليهم مكاتيب لئلا يعودوا. فهرب الوالي المصادر. وأحدُ المعرّفين أيضًا (٥).

ووقع مطر عظيم في أواخر هذا الشهر، وهو أثناء شهر شباط، وثلج عظيم، فرويت البساتين التي كانت لها عن الماء عدّة شهور، ولا يحصل لأحد من الناس سقي إلا بكلفة عظيمة ومشقَّة، ومبلغ كبير، حتَّى كاد الناس يقتتلون عليه بالأيدي والدبابيس وغير ذلك من البذل الكثير، وذلك في شهور كانون الأول والثاني، وأول شباط، وذلك لقلَّة مياه الأنهار وضَعْفها، وكذلك بلاد حوران أكثرهم يروون من أماكن بعيدة عن قراهم في هذه الشهور، ثم منّ الله تعالى فجرت الأودية وكثرت الأمطار والثلوج، وغزرت الأنهار ولله الحمد والمنة. وتوالت الأمطار، فكأنه حصل السَّيل في هذه السنة من كانون إلى شباط فكأن شباط هو كانون، وكانون لم يسل فيه ميزاب واحد.

ووصل في هذا الشهر الأمير سيف الدين مَنْجَك إلى القدس الشريف ليبتني للسُّلطان مدرسةً وخانقاه غربيّ المسجد الشريف، وأُحضر الطّرخان الذي كُتبَ له بماء الذهب إلى دمشقَ، وشاهده بعض النّاس، ووقَّعْتُ على نسخته، وفيها تعظيم زائد ومدح وثناء له، وشكر على متقدِّم خدمته لهذه الدولة، والعفو عمّا مضى من زلاته، وذكر سيرته بعبارة حسنة.


(١) هو: محمد بن عبد البر.
(٢) هو: عبد الوهاب بن علي.
(٣) العروس: أفصح.
(٤) في الأصل: المعرفين وهو غلط.
(٥) ليست في أ و ب و ط. وهي في الأصل من قوله: شهر ربيع الأول، أوّله الثلاثاء.

<<  <   >  >>