للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد اجتمع فيه القضاة الثلاثة، وخلق من المذاهب الأربعة، وآخرون من غيرهم، بحضرة نائب الشام سيف الدين مُنْكلي بُغَا، وكان قد سافر هو إلى الديار المصرية إلى الأبواب الشريفة، واستنجز كتابًا إلى نائب السَّلطنة لعقد هذا المجلس ليسأل عنه الناس، وكان قد كتب فيه محضران متعاكسان أحدهما له والآخر عليه، وفي الذي عليه خط القاضيين المالكي والحنبلي، وجماعة آخرين، وفيه عظائم وأشياء منكرة جدًّا ينبو السَّمع عن استماعها. وفي الآخر خطوط جماعات من المذاهب بالثَّناء عليه، وفيه خطي بأني ما رأيتُ منه إلا خيرًا. ولما اجتمعوا أمر نائب السلطنة بأن يمتاز هؤلاء عن هؤلاء في المجالس، فصارت كل طائفة وحدها، وتجاوزوا فيما بينهم، وناضل عنه نائبه القاضي شمس الدين الغزي، والنائب الآخَر بدر الدين بن وهيبة وغيرهما، وصرح قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي بأنه قد ثبت عنده ما كتب به خطه فيه، وأجابه بعض الحاضرين منهم بدائم النفوذ، فبادر القاضي الغزي فقال للحنبلي: أنت قد ثبتت عداوتك لقاضي القضاة تاج الدين، فكثُر القول وارتفعت الأصوات وكثُر الجدال والمقال، وتكلم قاضي القضاة جمال الدين المالكي أيضًا بنحو ما قال الحنبلي، فأجيب بمثل ذلك أيضًا، وطال المجلس فانفصلوا على مثل ذلك، ولمَّا بلغتُ البابَ أمر نائب السلطنة برجوعي إليه، فإذا بقية الناس من الطرفين والقضاة الثلاثة جلوس، فأشار نائب السَّلطنة بالصلح بينهم وبين قاضي القضاة تاج الدين - يعني وأن يرجع القاضيان عما قالا - فأشار الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل وأشرت أنا أيضًا بذلك، فلان المالكي وامتنع الحنبلي، فقمنا والأمر باقٍ على ما تقدم، ثم اجتمعنا يوم الجمعة بعد العصر عند نائب السلطنة عن طلبه، فتراوضوا كيف يكون جواب الكتابات مع مطالعة نائب السلطنة، ففعل ذلك، وسار البريد بذلك إلى الديار المصرية، ثم اجتمعنا أيضًا يوم الجمعة بعد الصلاة التاسعَ عشرَ من ربيع الأول بدار السعادة، وحضر القضاة الثلاثة وجماعة آخرون، واجتهد نائب السلطنة على الصُّلح بين القضاة وقاضي الشافعية وهو بمصرَ، فحصل خلف وكلام طويل، ثم كان الأمر أن سكنت أنفس جماعة منهم إلى ذلك على ما سنذكره في الشهر الآتي.

شهر ربيع الآخَر، أوله الإثنين، وفي مستهلّه كانت وفاة علم الدين داود (١) الذي كان مباشرًا لنظارة الجيش، وأُضيف إليه نظر الدواوين إلى آخر وقت، فاجتمع له هاتان الوظيفتان، ولم يجتمعا لأحد قبله كما في علمي، وكان من أخبر النَّاس بنظر الجيش وأعلمهم بأسماء رجاله، ومواضع الإقطاعات، وقد كان والده نائبًا لنظَّار الجيوش، وكان يهوديًا قرائيًا، فأسلم ولده هذا قبل وفاة نفسه بسنوات عشر أو نحوها، وقد كان ظاهره جيدًا والله أعلم بسرِّه وسريرته، وقد تمرَّض قبل وفاته بشهر أو نحوه، حتَّى كانت وفاته في هذا اليوم، فصُلِّيَ عليه بالجامع الأموي تجاه النَّسر بعد العصر، ثم حُمل إلى تربة له أعدها في بستانه بجوبر (٢)، وله من العمر قريب الخمسين.


(١) في ط: المغلم. وهو تحريف، وترجمته في تاريخ ابن قاضي شهبة (٣/ ٢٨٢). نقلًا عن ابن كثير.
(٢) في ط: بحوش. تحريف.

<<  <   >  >>