للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المنبجي، ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته، وقَرُب انقضاء أجله، ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأتباعه، فأرادوا أن يسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي، لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة (١)، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقربًا منه، وانتفاعًا به، واشتغالًا عليه، وحُنُوًّا وكرامة له.

(٢) وجاء كتاب من أخيه (٣) يقول فيه: إنَّ الأخ الكريم قد نزل بالثّغر المحروس على نية الرباط، فإنّ أعداء الله قصدوا بذلك أمورًا يكيدونه بها ويكيدون الإسلام وأهله، وكانت تلك كرامةً في حقنا، وظنوا أنَّ ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ، فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة، وانعكست من كل الوجوه، وأَصبَحُوا وأَمْسَوْا وما زالوا عند الله وعند النّاس العارفين سودَ الوُجوه، يتقطَّعون حسرات وندمًا على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الأخ مقبلين عليه، مكرمين له، وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تَقَرُّ بِهِ أعينُ المؤمنين، وذلك شجى (٤) في حلوق الأعداء، واتفق أنه وجد بالإسكندرية إبليس قد باض فيها وفَرَّخَ، وأضلَّ بها فرق السبعينيَّة (٥) والعربية (٦)، فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شَذَرَ مَذَرَ، وهتك أستارهم وفَضَحهم، واستتاب جماعةً كثيرة منهم، وتوَّبَ رئيسًا من رؤسائهم، واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه، ومفتي وشيخ وجماعة المجتهدين، إلا من شَدَّ من الأغْمَارِ الجُهَّال، مع الذلة والصَّغار - محبةُ الشَّيخ وتعظيمه وقبول كلامه والرُّجوع إلى أمره ونهيه، فعلَتْ كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعنوا سرًا وجهرًا وباطنًا وظاهرًا، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي القيمَ المُقيم، ونزل به من الخوف والذُّلّ ما لا يعبر عنه، وذكر كلامًا كثيرًا.

والمقصود أنَّ الشَّيخَ تقي الدين أقام بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيمًا ببرج متّسع مليح نظيف، له شبّاكان أحدهما إلى جهة البحر والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء، يقرؤون عليه ويستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر.

وفي آخر ربيع الأول عزل الشيخ كمال الدين بن الزَّملكاني عن نظر المارستان (٧) بسبب انتمائه إلى


(١) في ب: فيستريحوا منه.
(٢) ليست في ب.
(٣) يعني: شرف الدين عبد الله بن عبد الحليم.
(٤) "الشَّجَى": ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه. القاموس.
(٥) نسبة إلى عبد الحق بن إبراهيم محمد قطب الدين المعروف بابن سبعين. مات سنة (٦٦٩ هـ) وقيل (٦٦٨ هـ) في مكة المكرمة بعد أن فصد يديه وترك الدم يخرج حتى تصفى، قال الذهبي واشتهر عنه أنه قال: لقد تحجر ابن آمنة واسعًا بقوله: "لا نبي بعدي". فإن كان قال هذا، فقد خرج به من الإسلام. العبر (٥/ ٢٩١) وفيه وفاته سنة (٦٦٩ هـ)، وفوات الوفيات (٢/ ٢٥٣) وفيه وفاته سنة (٦٦٨ هـ).
(٦) "العربية": نسبة إلى الشيخ محيي الدين بن عربي.
(٧) كان تولاه سنة (٧٠٧ هـ) كما تقدَّم.

<<  <   >  >>