وقد ولي مشيخة المدرسة المرادية في السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة ١٢٧١ إحدى وسبعين، وتقدم للإمامة والخطبة بجامع درب العسال في السابع من ربيع النور من السنة الموالية لها، وتعاطى في مبدإ أمره المتجر، وكان حانوته بالعطارين الكبار يومئذ وجلس للإشهاد، وكان الولي الصالح الشيخ صالح المثلوثي كثير التردد عليه، فاتاه مرة إلى حانوته، وقال له: يا شيخ صالح هات دفترك واكتب إنك ستولى خطة كذا وخطو كذا، وذكر له عدة وظائف رفيعة يعز اجتماعها، وكان المر كما ذكر الشيخ رضي الله عنه فقد قدمه المشير الثالث لخطة القضاء بالحاضرة منتصف ربيع الأول سنة ١٢٧٧ سبع وسبعين ومائتين وألف، وتقدم في مجالس الجنايات عند وضعها، ثم في غرة صفر الخير سنة ثمانين ترقى إلى خطة الفتيا ثم في شهر شوال استعفى من خطته في مجالس الجنايات، وخرج لحج بيت الله الحرام ثانياً غرة ذي القعدة الحرام سنة ١٢٨٠ ثمانين ومائتين وألف، فحج وزار ورجع إلى الحاضرة على خطة الإفتاء، وكان مفتياً سادساً، ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً خامساً، ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ احمد بن حسين ترقى إلى رئاسة المجلس الشرعي، فولي خطة باش مفتي بتقدمه على المفتي الثاني يومئذ الشيخ الشاذلي بن صالح، والمفتي الثالث الشيخ علي العفيف، وكانت ولايته الخطة المذكورة تاسع شعبان الأكرم سنة ١٢٨٥ خمس وثمانين ومائتين وألف بعد أن تقلد وظيفة الحسبة والنظر على بيت المال أواخر ذي الحجة الحرام سنة ١٢٨٤ أربع وثمانين ومائتين وألف.
وقد كان فقيهاً عالماً، له حسن دراية، يضرب بها المثل، مع مزيد التحصيل في الفروع والأصول، وحسن الجاه الذي لم يشاركه فيه أحد يومئذ، وله ولع بالتصوف والأذكار، وحب الصالحين والزيادة لهم، ومواسة الغرباء أينما كانوا، وله حسن محاضرة لا تمل مع اقتدار كلي على إبراز الكلام في قوالب شتى.
وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ "ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه، المجيد بذاته" وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسها، فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بجيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانياً، لا بالجر على انه نعت للعرش، قال: وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى: (يوجد آية) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظراً، وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء، وقد كتب أختاماً كثيرة على أبواب مهمة من صحيح البخاري، وتصدى لشرح الموطأ فكتب عليها كتابة جليلة حين لازم إقراءها بجامع الزيتونة بلغ في الشرح المذكور إلى حيث بلغ في التدريس وتركه مسودة.
وأما تدرجه في مراقي إمامة جامع الزيتونة فقد تقدم للنيابة إماماً ثالثاً في الرابع عشر من صفر الخير سنة ١٢٨٣ ثلاث وثمانين ومائتين وألف عند وفاة الخليفة الشيخ محمد البنا، وأقام المغرب والعشاء والصبح مدة، وكان كثيراً ما يعتكف الليالي العديدة بجامع الزيتونة لأداء صلاة العشاء والصبح، وقد استصحب في ليلة النصف من شعبان تلك السنة للمبيت معه الشيخ محمود قبادو، فارتجل قصيدته، هنالك التي يقول في مطلعها:[الطويل]
إلى بيتك اللَّهمَ بالعزم أقبلنا ... حططنا به رحل الضيافة فاقبلنا