ولما توفي ابن أخيه المتقدم حلف المتقدم حلف عليه الأمير فأولاه الفتيا يوم الأحد موفى شعبان الأكرم عام ١٢١٩ تسعة عشر ومائتين وألف، فأضاف له عند ذلك خطبة باردو ودروس التجويد ودرس الجامع الباشي، فقام بإمامة باردو قياماً كلياً وباشرها بنفسه فزان المنبر والمحراب، وأتى في تلاوته وروايته ودرايته بالعجب العجاب، وقد هناه بتلك الولاية يومئذ شاعر البلاد وصديقه العالم الشريف الشيخ أحمد زروق بقوله:
حقّ الثناء لأحمداً ... ولمثله أنْ يحمدا
بدر العلا الباروديُّ من ... له في العلا أقصى مدى
[الكامل]
لك في العلا شرفٌ علا وفخارُ ... ومآثر شهدت بها آثارُ
لبستْ بها وبك الليالي بهجةً ... حتى استوى ليلٌ بها ونهار
وملأتها عدلاً ومعرفة بدا ... للدين منها وبينك استبشار
وهدى أنرت به الشرائع فاهتدت ... فينا بصائرُ واجتلت أبصار
حتى لقد سعدت بك الأقطار وازْ ... دهرتْ الأعصار والأمصار
وحبتك أبكار الثناء وعونه ... فيما تطرز وشيه الأفكارُ
ورأتك منفرد الكمال فأقسمت ... أن لا ترى أنظارك الأنظار
تأبى المعالي ثانياً لك في العلا ... وتجلُّ عن ذا قدرك الأقدار
ما ثاب من زمن الأعادي معشر ... مما أتيت من العلا المعشار
عجز الأفاضل عن علاك فسلّموا ... لك ما أتاه لغيرك المقدار
علموا بأنك خيرهم كرماً فإن ... جاروك في قصبات سبقٍ جاروا
قصرتْ على علياك ألسنةُ الثنا ... وطوالها عما تنيل قصار
لعظمتَ حتى لا يوافى فضلكم ... ما كرّرتْ من مدحه الإعصار
وسمت لعزّك في المعالي همّةٌ ... شمّاءُ دون سموّها الأقمارُ
شمساً طلعت فما انجلت لك بهجة ... حتى علاها من علاك نهار
أخذت حظوظُ المجد فيك حقوقها ... وازدان منك على الفخار شعار
ما لُحتَ في أفق المعالي نيّراً ... إلاّ ليعلَم للعلوم منار
يا فخر تونس واكتمالَ بدورها ... لولاك ما اجتنب البدور سرار
أنت الكفيل بعزّها ولعزها ... حيث اعتزالك في الخلود قرار
لم يدركنهُ الفخر حتى لحت في ... كبرائها، والفخر منك يُعار
فأعرتها شرفاً لها بمعيره ... تيه على الأكفاء واستكبار
ها أنت تاج في سما أفلاكها ... شرفٌ به لا لؤلؤ ونضار
ونظمت للمجد الخطير فريدةً ... عقداً وإنك درّه المختار
وجمعت شمل المعلومات فأصبحت ... جاراً يعز كما يعز الجار
ورعى اهتمامك بالمكارم سرحها ... فنظمتها كالدر وهي نثار
رتب علوت العالمين بجمعها ... ويجمعها تتفاوت الأقدار
بعلاك أوصاف الفخار تشرفت ... حتى كأنك للفخار فخار
قد تفضل الأوصاف من موصوفها ... وبحسن لابسه يزين إزار
كصفات أحمد فهي طيب ثنائه ... وشذاه وهي ثناؤه المعطار
بدر العلا البارود (ي) صدر بدورها ... من قد علته هيبةٌ ووقارُ
العالم العلم الشهير النير ... الفرد الذي عنّت له الأنظار
ذو السيرة الغراء والحكم الذي ... نصرته من آرائه الأنصار
مازال أحمدُ في شريعة أحمدٍ ... محمودةٍ من سيره الآثار
حتى استنار به الهدى وأنار في ... أفق الشرائع من هداه منار
وثقت يد النعمان منه بغاية ... في الفقه دون بلوغها الأنظار
رأي له في الاعتقاد رشاده ... يهدى به كلّ الورى استبصار
من كان مثل أبي حنيفة ماله ... إلاّ اعتقاد الأشعريّ شعارُ
بحرٌ وأين النهر من تياره ... في بحر علمه تغرق الأنهار
هو (ملتقى البحرينِ) من علم ومنْ ... أدبٍ طمعاً له فيهما تيار
كل يقول لعلمه ولشعره ... هو (أحمدٌ) في شعره (بشار)
(كابن الحسين) ابنُ الحسين وقلما ... تتماثل الشعراء والأشعار
أو ما ترى الدّرر التي قذفتْ بها ... أفكاره سحرتْ به الأفكار
تغدو المنابر تحته بسماعها ... معتزةً ولو أنها أحجار
ويراع في يده اليراع وكيف لا ... وهي البحارُ ومن ذكائه نار
الماجد الأعلى الجليل المجتبى ال ... معطاء والمتفضل المكثار