أما فؤادي فمشفوف بودكم ... والود لا تمترى منه الدلالاتُ
وحيث ما صح منك الود معتبطاً ... فلا علي إذا فاتت ملاقاة
ولتعرفى أيها المولى الفاضل، والمحرز لأشتات الفاضائل والفواضل، أنه قد حال الجريض، دون القريض، وشغلتنا الأدواء عن الكتابة والتعريض، وضُرِب بيني وبين الآداب بسور من معالجة الأبدان ونسا بيني وبينها الظَرِبان، وصرت حتى كأني لا أفهم من الموافقة إلا ملائمة العلاج، ولا المراد بالمطابقة إلا المساواة في المزاج، ولا من الاستخدام إلا استخدام الغاذية لقواها، واعتبار العوارض التي تغشاها، ولا من التجريد إلا مقدمة الغوص في الأبْزَنَات، ولا من التفريد إلا العدول عن فويّ المركبات، ولا من اللف إلا ما كان خوف الأهوية، ولا من الحل إلا تفكيك الكثيف من الأدوية، ولا من العقد إلا عند المعاجين والحبوب، ولا من القبض إلا امتناع التفل عن أن يصوب، ولا من الجناس إلا الأَجناس العشرة من النبض ولا من التعديد إلا عدّ أنواعه السبعة والعشرين وتمييز بعضها عن بعض، وبجملة لم يبق لي من الأدب شوب، ولا روب، ولا هارب، ولا قارب، وصرت عند ورود موارده، والنزع إلى رسائله وقصائده، كما قيل في المثل إذا أصابت الظباء الماء فلا عباب، وإن لم تجده فلا أباب، غير أنه لما وردت صحيفتكم السنية، الباهية الرضية، وصُلينا منهاببلية، واعتبرنا قوله تعالى وإذا حييتم بتحية، ووجدنا رد الجواب عنها من الواجبات الشرعية، ووجدتني في الإتيان بمثلها عاجزاً عنها، فضلاً عن الإتيان بأحسن منها، تفصينا عن الوقوع في مخالفة الآية، ورأينا أن نأتي بالميسور وإن لم يصل الغاية، وحيث كانت العزائم بالعجز عنها مطرحة، فلا جرم أنّا نقرع أبواب الرخص المتفخة، فإن لم يصبها وابل فطل، وإن لم يكن خمر فخل، والله تعالى يحرس علاكم ويديم بقاكم، وليس لنا عليكم إلا الدعاء بظهر الغيب وإن لم يظهر من الجيب ونستوهب من واهب الصور النوعية، أن يفيض علينا من عنايته القدسية، بمنه وكرمه والسلام.
وقد قام بخطة النيابة أحسن قيام بلغت به إمامة جانع الزيتونة في ذلك العهد إلى غاية المرام، ولما توفي الشيخ محمد الطويبي قدمه حمودة باشا لخطة القضاء وخليفة بجامع الزيتونة يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال سنة ١٢١٧ سبع عشرة ومائتين وألف، فزان الخطتين بفصاحته وعلمه زمتانة فقهه وكمال خبرته بفقه القضاء وتطبيق النوازل وهنأه بذلك إبراهيم الرياحي بقصيدته التي يقول في مطلعها: [الطويل]
على قدَرٍ وافتك عالية القدْرِ ... ويا طالما حنت إلى وجهك البدر
وكان الأمير حمودة باشا يستجيد خطبته، بحيث لا يكاد يتخلف عن حضور الجمعة بجامع الزيتونة رغبة في سماع خطبته. وكان سَمَّى أخته لوزيره صاحب الطابع، غير أنه لم يزوجه منها فطلب الوزير المذكور من الشيخ أن يخطب في وعيد العضل رجاء أن يزوجه سيده ولما حضر الأمير الجمعة خطب الشيخ في ذلك فاستشاط الأمير غيظاً وكاد أن يخرج قبل الصلاة وبمجرد فراغه من صلاة الجمعة عزله من جميع خططه، وكان ذلك يوم الجمعة التاسع والعشرين من صفر الخير سنة ١٢٢١ إحدى وعشرين ومائتين وألف، فلازم بيته.
وكان عالماً موثقاً فقيهاً أصولياً منصفاً، درسه رياض البساتين، سهل التناول، كاتباً شاعراً، فصيح القلم واللسان، بديع الخط، حسن المحاضرة، كريم الأخلاق، عزيز النفس. توالت عليه الأمراض بعد عزله فلازم جبل المنار إلى أن توفي ليلة الأربعاء الموفي ثلاثين من المحرم سنة ١٢٢٢ اثنتين وألف، وجيْ به إلى تونس فدفن بتربتهم بالزلاج ةعليه رحمة الله آمين ورثاه بما كتب على قبره الشيخ عبد الرحمن الكامل بقوله: [الكامل]
قف واعتبر فهنا ترى الأنباء ... جاءت بها عن صخرها الخنساءُ
ودع المدامع هطلا فلقد بكت ... أسفاً عليك الصخرة الصماء
واندب من اللذات مضغتها لقد ... ذهب الهناء وساء منه عزاء
تبكي فقيداً عاد في أصدافه ... شرفت به الخضراء والغبراء
تبكي أبا حفص وهل يجدي البكا ... ذلت لعز مقامه الؤساء
محجوب أسرار صفت لجنابه ... فثوابها في لحده الإخفاء
هذا لعمري قبره فأعجب به ... قد ضم بحراً موجه الألاء
من للعلوم وكان في روضاتها ... قمر الدجى عمت به الأضواء