وقد اتفق له مدة قضائه بباردو أن ورد إليه رجل يقال له موسى الغدامسي متشكياً من سليمان باش بواب يطلب منه ثمن قسطل وكان المشتكي به ذا سطوة فأرسل إليه يأمره بالحضور فوجده العون بمحكمة الأمير فأخبره بأن القاضي يأمره بالحضور فامتنع عليه متعللاً باشتغاله بحكم الأمير فأعاد وأمره بغصبه حيث إن الأمير لا يتوقف في الحكم عليه ولما رجع إلى العون انتهره وامتنع عنه بالدخول إلى المحكمة فرجع العون يشكو ما لا قاه من باش بواب وبادر الشيخ إلى النزول من موضع حكمه، وأمر بغلقه وذهب لدار الأمير يترقب خروجه من الحكم ليسلم لديه في الخطة. ولما بلغ خبر ذلك لباش بواب اشتد خوفه وتوسل بكثير من أهل الدولة فلاطفوه وواعدوه بحضوره لديه في محل الحكم وطلبوا منه عدم مقابلة الأمير فرجع، ولما بلغ خبر ذلك كله إلى الأمير مصطفى باشا أحضر باش بواب المذكور وأرسله للشيخ صحبة كاتبه الشيخ أحمد بن أبي الضياف ليبلغ للشيخ أن الأمير حكّمه فيه بما يشاء لامتناعه من الحضورلديه فلما بلغه رسالة الأمير قال له أما أنا فلا أحكم عليه إلا بإعطاء حق خصمه، وإنما أسأل الله سبحانه أن يحكم فيه بشديد حكمه فقال له الشيخ ابن الضياف والله يا سيدي لو حكمت فيه حكمك بما شئت لكان أهون عليه مما دعوته عليه وامتثل إعطاء حق خصمه ورجع، رحم الله جميعهم.
وتقدم لمشيخة مدرسة النخلة ثاني صفر الخير سنة ٥٤ أربع وخمسين فأقرأ بها وختم.
ولما توفي الشيخ محمد البحري قدمه المشير أحمد باشا باي قاضياً بالحاضرة في الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة ١٢٥٤ أربع وخمسين ومائتين وألف فزان الخطة بفقهه وديانته كأنّ المختصر الخليلي منه على طرف الثمام وهو أعرف الناس بخيباته في ذلك العصر، بهذا يصفه شيخ الإسلام الشيخ محمد بن الخوجة حيث اجتمع معه في الخطة إذ كان هوقاضي الحنفية مدة ولايته ومع ذلك فجميع أمهات الفقه التي كانت على ملكه، كلّها طالعها وأوقف عليها حتى أن بعض معاصريه يسميه مالكاً الأصغر وله مراجعات كثيرة في المذهب الحنفي نظم بعضها في منظومة لقط الدرر، وله في تقاييده كثير من هذا الباب. وكانت له مودة خاصة بالشيخ محمد بيرم الثالث لجوار منزليهما فيجتمعان صبيحة كل يوم عند أحدهما وكل واحد منهما يرجع لصاحبه في مذهبه، ولهم في ذلك مسائل كثيرة منها مسألة أرسل له صاحب الترجمة فيها نظماً يطلب منه بيان الحكم فيها بمقتضى المذهب الحنفي وهي قوله: [مجزوء الرجز]
بعد سلام سائل ... عن حكم فرع معتبر
هل اعتراف مشتر ... لمثل دار إن صدر
بعد سنين أنّ ما ... كان اشتراه لعمر
يعمل شرعاً عندكم ... أو حكم رده استقر
وقد عرضت له نازلة تشعبت عمن قبله، وطال فيها النزاع وصاحبها صفاقسي يدعى القَط فوقف فيها إلى أن انهاها وأبرم فيها الحكم وأنشد في ذلك قوله: [الطويل]
وقائلة هل للقضاء فيك موضع ... فنوليكها قلنا نعم ذاك عن شرط
فقالت وما الشرط الذي أنت شارطه ... قرنت به تلك الولاية بالربط
فقلت على أن لا أخوض خصومة ... مشعبة تُعيي كنازلة القَط
وقد استمر في خطة قضاء الحاضرة إلى وفاته، فكانت مدة مباشرته خطة القضاء أكثر من خمس وعشرين سنة، قضى منها خمس سنين ببنزرت، ونحوتسع عشرة سنة بباردو والبقية بالحاضرة واجتمع فيها من قضاة المالكية مع الشيخ إسماعيل والشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد البحري، وكان معه من القضاة الحنفية الشيخ محمد علي الدرويش ثم محمد بن الخوجة وهو الذي أدركه في قضاء الحاضرة. وكان مدة هاته الخمس والعشرين سنة لم يترك فيها الإشتغال بالنوازل ومباشرة الحكم يوماً وكان مع ذلك وقد وقفت له على أبيات في مسودات تقاييده العلمية يشكو بها ما يجده من تعب الخصوم وهي قوله: [الوافر]
أرى دهري تقّسم للرسومِ ... مدى ليلي ويومي للخصومِ
فدهري كلّه خصم ورسم ... أقاسي منهما كلّ الهموم
فما لي راحة أرجو انجلاء ... لما ألقى من التعب العظيم
أحاول من فضاضة ذا وهذا ... أحاول منتج الشكل العقيم