وكان أخوهما الشيخ أحمد يلقب الشهاب. وهو إمام العربية في عصره يسكن قرب حمّام الديوان ودارهم هي التي صارت زاوية القادرية هنالك، وأكثر جلوسه في سقيف داره وهنالك يجتمع بقاصديه. وأخذ عنه أعلام منهم شيخ الإسلام الشيخ محمد البارودي. وكان الشهاب أوحد أهل زمانه جلالة وعلو همّة مع الحظ الوافر من العلم والعمل، وقد رزق القبول التام، والبس حلّة المحبة فكان كثيراً ما يراسله ملوك المغرب الأقصى والأدنى ويستجيزه علماء تلك النواحي وصلحاؤها ويصله ملوكها بالصلات العظيمة ويهدون إليه الكتب المعتبرة لما يعلمونه من شغفه بهأن وقد رأيت بخط حافظ تاريخ البلاد التونسية شيخ الإسلام البيرمي الرابع أنّه وقف على نحو مائتي رسالة ما بين مطول ووجيز ونظم ونثر غالبها من ملوك فاس ووهران والجزائر وغيرهأن ومن كتاب تلك النواحي وعلمائهأن كلّها مشحونة بالتنويه بشأنه والتملّق له والتماس الدعاء الصالح منه وطلب الانخراط في سلك أهل محبته نفعنا الله ببركاته. وفي أثنائها رسائل العالم الجليل الشيخ محمد المرتضى الحسيني الواسطي الحنفي نزيل مصر شارح إحياء علوم الدين للغزالي.
ثمّ وقفت على تاريخ الجبرتي المصري فإذا هو قد ذكره في وفيّات سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف وأطلققلمه في ذلك وقد قال في ترجمته: إنّ والده كان يحبه ويعتمد على ما يقوله في تحرير نقله ويصرح بذلك في في أثناء درسه ويقول أخبرني أحمد بكذا وقال لي كذأن وقد بلغ من الصلاح والتقوى إلى الغاية، واشتهر أمره في بلاد إفريقية اشتهاراً كلّياص حتى أحبه الصغير والكبير وكان منفرداً عن الناس منقبضاً على مجالسهم فلا يخرج عن محله إلاّ لزيارة ولي أو وفي العيدين لزيارة والده، وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم وعرض عليه الدنيا مراراً فلم يقبلها وعرضت عليه تولية المدارس التي كانت بيد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها وعكف نفسه على مذكرة العلوم مع خواص اصحابه ومطالعة الكتب الغربية واجتمع عنده منها شيء كثير وكان يرسل في كلّ سنة قائمة إلى شيخنا السيّد محمد مرتضى فيشتري له مطلوب وكان يكاتبه ويراسله كثيراً ١هـ.
قلت وقد وقفت على ما يقرب من ثلاثين رسالة منهأن كلّها في غاية حسن البلاغة والابتداع تدّل على كمال تحابّهما رضي الله عنه مع ما تتضمنه من تحلية الشهاب المذكور بأوصافه التي كان عليها ولذلك رأيت أن أثبت هنا بعضها فمن ذلك رسالة نصّها: بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على سيّدنا محمد وآله وسلّم استمد الفيض والموّدة وشعشعان أنوار الأزل بدوام انسجام غمام الفضل الأعلى، وارتسام أرقام أقلام الفرقان الأجلى، في أدواح وألواح سيّدنا الجامع للكمال شملأن عارف وقته وإمام عصره ومقام الإمام العارف لا ينكر أصلأن ألف ألفة الحب الفائق، حاء حقيقة الحقائق ميم مرؤة الأصل الرائق، دال دوام الشهود في حضرة أم الطرائق، وهو سوسي الأصل لكن على باب مولاه الغني ساسي، حكيم الوقت ولجراح القلوب آسي، رئيس بحر الحقيقة مستاسي الأواسي ومرير المراسي، لا زالت صحائف أرقامه بأنوار البديع مرسومه، ولطائفه بزواهر جواهر الحكم مرقومه، مترقيّاً إلى ما يؤمله، والله يرعاه في كل ذلك ويكفله مهدياً إليه أنفس تحيات تفوق على النبات المصري بحلاوتها الشهيذة، وأنفاس تسليمات يمانية تنافست في توجيه هاته القضية، مخبراً أنّه وصلني وصلك الله فيمن وصله وجعل أشكال محبيك منتجة، كما أن أشكال أعاديك عقيمة مهملة كتابك الذي فضفضت ختامه، وانتشقت كمامه ووجدته على علاك علامه، فكان أكرم وافد، وأحسن وارد، وسرني مضمونه، وأبهجني مكنونه، ومددت إلى الله تعالى في الحال أيادي التضرع والابتهال بحصول الشفا لكم على أطيب أحوال، على أن العارفين بالله تعالى سرورهم ممزوج بالأكدار، ومن آياتهم النحول والاصفرار والصبر على ضيق الدار، وعدم التفاتهم إلى ما رزق غيرهم من السعة والإكثار هذا والسيل يحمل القذا وما ثم سدى:[الطويل]
ومن سرّهُ أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً