وبهذا السبب نرى المتمدنين من أمم هذا الجيل، المقتدمين في المعارف والصنائع ورواية الأناجيل يعملون الجد إلى الرحيل، ويرون أن الإقامة بالوطن كالمعنى المستحيل، فاتخذوا الأرض مغزاة وهم بتطوافها أحرى، ورأوا أن من العجز تفضيل دار على أخرى، وقد أعانهم على ذلك المساعدة بتسهيل الطرقات، التي بشرت لهم البلوغ إلى غاية الجهتين الجنوبية والشمالية في عامة الأوقات، فنسفوا أعقاب الأرض، وذللوا سبلها للمرور بالطول والعرض، واتخذوا البواخر البحرية وخرقوا سياج الجبال الشاهقة بمرور السكك الحديدية التي رأيناها قد امتدت فيما حول حاضرتنا نحوا من لعشرين ميلأن ونؤمل من الله زيادة امتدادها لتسهل لنا من الأرض، سبيلاً ثم إن هاته الوسائل التي يستعملونها لتيسر لهم الوصول إلى الأماكن التي يقصدونها حملهم عليها ما علموه، مما خلق الله عليه نوع الإنسان، من غاية احتياجه إلى الاجتماع والتعاون اللذين هما السبب الوحيد في لعمران، وإلا فأي اجتماع مع استقرار كل واحد في مقره على خيره وشره، وأي تعاون مع انفراد اجتماع أصحاب الاختراع بمخترعاتهم، وتنائي القاضري عن رؤية ما أحكموه ببراعاتهم، وهل في ذلك إلا إضافة التقاصر إلى القصور، مع أن التعاون لا يحصل مع التباعد ولتقاصر، ولابد فيه من الاجتماع والتناصر، نعم قد أضر السفر ببعض أهل الممالك، الذين استغرقوا زمانهم في سلوك تلك المسالك، فهجروا أوطانهم التي كانوا يقصدون عمرانها وحملوا معارفهم إلى غير بلادهم وعمروا ديار الأجانب بتخريب بيوت آبائهم وأجدادهم كتعمير بلاد الروسيا بأمم جرمانيا الذين حملوا إليها معارفهم وصنائعهم، وأخلوا من محاسنهم مرابعهم، وكتقدم لندرة بأفراد أمم الفرنسيس، الذين سلموا إليها من مخترعاتهم وعلومهم الجديدة ما حصلوا به على الفخر انفيس، ولا شك أن السفر الذي بهاته المثابة، ليس لمستحسنه إصابة، فهما قصد المسافر نفع بلاده، لم تكن بلاد الغير غاي مراده، وإنما عليه أن يرغب في تحصيل تلك المعراف، ويجعل في بلاده منها أهم المصارف، ليكون هذا السفر نفع وما أضر وحيث تقررت عندي محاسن الأسفار، على الوجه المختار، وصبوت إلى رؤية مآثره، والتحلي بمفاخره، حتى ساقتني مقادير رب العالمين، إلى تفقد شعائر الدين فذلك الوزير الجديد أدام الله نجاح سعيه الحميد، إذ أمر أوقاف المشاعر فيما سلف أذاب كبود المهتدين، واشمت أعداء الملة المعتدين، حيث رميت من الإهمال بما كاد أن يفضي بها إلى الاضمحلال، ووضعت بيوت أذان الله أن ترفع، وأغتدي شأنها بمضيع وهدمت صوامع وبيع، وأكلت أموالها بالباطل دن قيام بآرابهأن (ومن ظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) إلى أن رأينا من مصانع الدولة الصادقية التي أعادت في هذا العصر شرخ شباب الملك التونسي، وخلعت عليه من محاسن دارة خير الدين ملابس الفخر السندسي، فنظرت خلد الله عزها إلى هذا المهم، وتداركت بحزمها ذلك الخطب الملم، ووضعت بجمع شمل الأوقاف محكم القوانين، وأناطت عهدة تنفيذها لرئاسة العمدة الأمين، العالم الفاضل الشيخ محمد بيرم أدام الله مجده، وقارن بالنجاح سعيه وجده، فقام لها قيام الزعيم، وهجر لتدبير مصالحها لذائد الراحة والتنعيم، مستقبلاً مرضاة ربه بهذا الخير العميم، معتضداً لذلك بجمعية جليلة، قد تخيرهم تاج المفاخر إكليله وكانت ولايته رعاه الله تعالى أوائل شهر صفر الخير من سنة ١٢٩١ إحدى وتسعين ومائتين وألف، وقد سرت البلاد باختيار أولئك الأنجاد، تحت رئاسة هذا العماد، وأملوا ما حقق الله لهم فيه الأمل، فرأوا عن أقرب وقت أعز البشائر، لاهجة في سائر الأندية بإحياء تلك الشعائر، ولذلك قلت أخاطبه:[الطويل]
بك الدين قام اليوم يجبر خلّه ... وربُّه في حصن منيع أحلّه
فقمت إلى إحياء خير معالم ... قياماً سواكم ليس بجهد قله
وأحسنت تدبيراً لذلك كل من ... تملاه أثنى بالذي كنت أهله
بها تونس قامت لشكر رياسة ... أرى تاجها ما إن سواكم أقلّه
رأت أنها ضاعت بأيدي برية ... على حين لم تلف النصيح وفضله
فذكرت البيت الذي طالما أوت ... إليه وعزت حين حلت محله
فنادت ببيت الشم من آل بيرم ... زعيماً هماماً يحمد الناس فعله