فاعتمدت على الله في عمل المسير إلى بلد سوسة من وطن الساحل، واقتطعنا إليها تلك المراحل، فألفيناها بلدة طيبة المركز وهي عتيقة قبل الإسلام وكان فتحها في ولاية معاوية بن حديج على يد عبد اله بن الزبير بن العوام وهو حد بين القيروان والجزيرة القبلية، من الجهة الشرقية بالنسبة إلى الحاضرة المحمية، في عرض خمس وثلاثين درجة وإحدى وخمسين دقيقة وعشر ثوان من تونس على طول سبع وعشرين دقيقة وثمان وثلاثين، ثمانية منها على شواطئ البحر فهو يحدها من الجهة الشرقية وقد أحاط بها سورها الذي أقامه زيادة بن إبراهيم، بن الأغلب إحاطة تصون، حتى عدت حصونها لإفريقية من أضخم الحصون، وبها مضجع صاحب الأسرار، المعلن بالفخار، الشهير من كل الأقطار، وعماد الأولياء في ذلك لمحل، الولي الصالح الشيخ سيدي بوراوي الفحل، رضي الله تعالى وأرضاه وقد اجتمعت هنالك بأحد ذريته الفاضل الشيخ عبد الصمد بوراوي وهو يومئذٍ من أرباب الفتيا بها على جلالة وخيرية تامين، وكذا عماد بين الشرف الممنوحين بمزيد الرفعة والشرف السادة الذين حبهم فرض على أهل الدين وهو الفاضل الصفوة لشيخ سيدي أبو الحسن زين العابدين إلا أني وجدت أهالي هاتيك البلد، على حالة لم يتصف بها غيرهم من أحد بل وجدتهم على الحالة التي ورثوا فيها أجدادهم حيث ساقت المقادير الشيخ أبا الحسن علي الغراب فقال يصف بلادهم: [البسيط]
حللت سوسة لا حلَّ الرخاءُ بها ... بالجهل ملآنة قفرا من الأدب
والساكنون بها خشب مسندة ... تبالها أبداً من سوسة الخشب
أستغفر الله بل إن ربعهم في الأدب قد أعمره أحد مفاتيها عمارة بعد أن أجدب ممن لازمنا بالمسامرة لما عنده من الآمال، وكتبت إليه حين تخلف في بعض الليال: [البسيط]
يا مفتياً له من ذي الود إيثار ... زرنا ولا تتناءى عنكم الدار
عجبت منك وقد أفرغت منزلنا ... بالأمس من بدركم إذ أنت عمار
فكتب إلي ووافى، ولم بعد إخلافاً: [البسيط]
جاءت إلي من المفضال أشعار ... فأشرقت من سماء الطرس أنوار
رامت من الود أن نسعى بمنزلة ... وذاك فرض وإن شطت بنا الدار
فكيف والقرب قد أدنى منازلنا ... وعبقت من شذا رياه أعطار
أما مدة إقامتي بهذا البلد التي بلغت لنحو الشهر فإنها كانت علي من أعظم الأكدار، التي لا يقر لصاحبها قرار، إذ كنت حذراً من كلابهم الذين ينبحون الأضياف ويعدن وكل يوم عندي كلن مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، وإذ لا يكاد نزيلهم راحه، ولا يبيت عزيزهم أو ذليلهم يرتجي نجاحه، فالمستريح عندهم من ذوي الشأن النبيه لا يأمن من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، وهذا الحلل لا زالوا منه في أوحال ولقد أعرب عن دخيلاتهم شاعر بلادهم، وأحد أجدادهم أبو عبد الله محمد المؤخر إذ قال في وصفهم وما تأخر: [مجزوء الرمل]
كل سوسي فهو سوسة ... وله نفس خسيسة
بعضهم ينهش بعضاً ... مثل كلب في فريسة
ثم إني أقول متوفياً طرائق الإنصاف: إنهم معورون فيما أودع في أصولهم من تلك الأوصاف لكنهم قد تخرقوا فخرقوا سائر السياجات أو كادوأن وبعد المحافظة على أصول آبائهم زادوأن إلا أن يقولوا إنه قد كان قائماً بآبائهم ذلك الألم، ومن يشابه ابه فما ظلم، فيتوجه حينئذٍ لهم الاعتذار، ونقول بعداً لهاتيك الديار ولقد صدق أحد جلة الشعراء يحذر من مكائدهم، بما تحققه من سوء عوائدهم، وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن يونس إذ قال مجيباً من سأل عنهم من أهل تونس: [الكامل]
بعداً لسوسة لا أراها منزلاً ... لذوي النباهة من بني الآداب
بلدا إذا صب السحاب قطاه ... صب الإله عليه سوط عذاب