أما أنا هنالك فلن أستريح إلا بما عسى أن يرد علي من مكاتيب أخواني، حيث تناءى عنهم مكاني، ولولا مخاطبتهم الرائقة، ما كنت لأجد هنالك راحة لائقة، إذ لم أتعود في حاضرة تونس بشهادة الزور، ولا بقول الفجور، فكنت اقتصر في معاملتهم على ما أوجبته الخدمات، قانعاً من الغنيمة بالسلامة والنجاة، ولم أستطب هنالك غير مخاطبات ساقتها لمقادير، وقعت بيني وبين أخلائي بتونس من الجهابذة النحارير، وقد انطوت على خفيات الرموز، ولولا السفر ما مدت تلك المخدرات أعناقها للبروز وأول ذلك ما أنشأته خطابا لجنبا من تفاخرت به تلك الرئاسة، عنواناً على ما كنت أعاني في ذلك البلد مراسه: [الطويل]
على كاهل الإجلال أهدي تحية ... مضمخة في سجف ود مثمج
وأودعها مالي من الشوق كي به ... تفوح على الدنيا بطيب تأرج
وأستحمل الركبان والعيس مالها ... من الفخر والإجلال في كل منهج
عسى أن يطيقوا حملها لممجد ... أعز بني الدنيا مقيم المعوج
له حسن تدبير وعز مهابةٍ ... وفسحة علم فهو خير متوج
تراه على ما عنده من مكارم ... بلاقيك بالوجه الأغر المبلج
حيا الله خير محيأن وأفخر العلماء محيأن سراج الهدى، وغيث الندى، القاصي المدى، الداني الجد أعلن مصاقع البيارم، محرز خير المكارم، شهاب الدين وكهف الملتجئين، مقيم شعائر الملة الإسلامية، ومديم المثابرة على الحزم بنفسه العصامية العظامية، سعد السعود، والمنهل العذب الورود، صاحب الصيت الشهير، المتصرف كيف شاء بإكسير التدبير، مالئ الأرض فخارأن ومبيد الدعاة استصغاراً عين أعيان السقع التونسي، الذي ألبسه ملابس العز السندسي أستاذنا الهمام النحرير الفاضل الشيخ سيدي محمد بيرم أدام الله رعايته وحفظه.
أما بعد إهداء الإسلام لائق بتلك المكارم مصحوباً بالإجلال الإعظام بما تستوجبه تلك المعالم، فلا يعزب عن شريف علمكم ما عندنا من الاشتياق، الذي لا يكاد أن يطفي بغير التلاق: [الطويل]
وفي النفس حاجات إليك كثيرة ... أرى الشرح فيها والحديث يطول
وإنما أعلم سيدي بأني على ما تعلمون من بذل الوسع في جميع أطراف ما أنا بصدده مقتحماً شقة سياج لموانع القائمة بهاتيك البلاد، التي منعت تلك المصالح الجارية على القوانين الشرعية من النفاد، وذلك هو السبب الوحيد في صيرورة خدمة الأوقاف بهذا البلد مستأنفة من جميع جهاتها إذ لم تجد قبل قدومنا أحداً من حماتهأن حيث لم يكد أحد يخلوا من غرض في كل ما عرض نعوذ بالله تعالى ونسأله التأييد والإعانة والسلام.
وكاتبت إخواني أدام الله رعايتهم وحفظهم بما اقتضاه الحال لتراكم الأشغال بحيث إن ما كاتبهم به ليس يبلغ المرء الأمل، ولكن كما قلت لهم فيها جهد المقل خير من عذر المخل، وكاتبني عند ذلك جناب الأخ الودود والفهامة النحرير الفاضل الشيخ سيدي محمد جعيط بما نصه: كتبت وبعد سيدي لا زال محفوفاً باللطف يلقي علي ضراماً ووثوقي من الله باجتماعي بك واعتقادي عافيتك يقول لسان حالهما يا نار كوني برداً وسلاماً فها أنا أترقب صبح المسرة من أفق الرجأن لتطلع فيها شمس فضلك لأهل الفضل والحجأن وإذا ببشير العافية قد أقبل وعليه من حلل البلاغة برد فأثار مني كامن المجاراة في ميدان الإنشاء ولو كان يني وبينه عهد، كتاب قد استنشقت عرف المودة من مسك مداده واحتسبت راح العافية من منطوقه وفحوى خطابه، وسرحت النواظر في رياضه النواضر، وصرت من خلاه أحلي بحلي الفصاحة نفسي، وأسامره بذلك في مجالس أنسي، وأكرره كلما أصبح وأمسي، وأجعله في حانات المحاضرة نديمأن لما أعددتك لفض ختام رحيق المعاني أخاً زعيمأن وما احتوى عليه من خرائد المعاني، وكان أن يكون سبباً لإجحامي حتى أكون لبساط المكاتبة ثاني، فماذا يقول فيك المادح، وقد أسكتت بلاغتك كل صادح، ومن يباريك وقد ركبت غضنفراً ومن يجاريك في صفة فضل وكل الصيد في جوف الفرأن ولعمري هل يباري التوحيد بعمل، أو يجاري البراق بجمل، وهل يلحق شأو من ملك بسيف يراعه ملك الأدب، العارف بوضع الهناء موضع النقب المظهر من خدره فكره كل فتانة الطرف، عاطرة العرف، لو ضربت بيتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العربة بالإعجاز حتى أني متى هطل من سماء فكرته صيب، تمثلت ببيت أبي الطيب: [الطويل]