للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اتفق لي مع الشيخ العلاني أمر مهم وذلك أني لما أزمعت على الرحيل من القيروان انفتحت السماء كأفواه القرب فتوالت الأمطار هنالك أياماً عديدة، ومن عادتهم أنهم إذا توالت عليهم تلك المطر لا يخرجون للسفر، لأن أرضهم مزلقة وهناك بعض تكسير في وادي البوقال فلا يأمن المسافر أن يقع فيه، وكم غمر من مسافرين. وحيث عزمت على الرحيل والحالة ما ذكر تعرض غالب أهل البلد ومنعوني من الخروج في ذلك الوقت لكن لما أتممت خدمتي رأيت أن لا وجه إلى التأخر وتوكلت على الله في قصد السبيل، لكن ليلة السفر داخلتني بعض هواجس في الرحيل، والحالة ما ذكر، فاتفق لي لما توجهت إلى موادعة السيد نقيب الأشراف وجدت عنده الشيخ العلاني، فبينما كنا جالسين وأنا أفكر في سفر غد قال لي الشيخ على البديهة يا شيخ أنت لا تخف من وادي البوقال وإنما إذا وصلت أنزل من الكروسة وخذ فرساً واركبه وافطع الوادي على الفرس واترك الكروسة تخرج من الوادي وحدهأن وحين قال لي ذلك زادني الهاجس فتوقعت وقوع مكروه، وخرجت من هنالك على تلك الحالة ففي آخر العشي بينما كنت راجعاً لمحل نزولي اعترضني الشيخ فأعاد علي الدعوة إلى المبيتة التي دعاني لها من قبل فقلت له دعني لا آتيك أبداً فضحك وقال لي: لماذا والحال أن المبيتة عملتها لأجلك فقلت له لا يتأتى لك وأنت تقول لي إذا وصلت إلى الوادي أنزل وحيث إني أتكلف الخلاص بنفسي فلا يعنيكم مني شيء فقال لي ماذا تريد فقلت له أريد أن أقطع بكروستي وأكون في أمان بعنايتكم وإذا لم نر ذلك من رجال القيروان فلا يعنيكم من شيء فضحك وقال لي توجه واقطع الوادي بكروستك ولا سوء عليك وإنما إذ نزلتم الوادي قل بسم الله، فقلت له حينئذٍ نأتيك. ولكن لما خرجنا في الصباح في مشقات الخضخاض والزلق مع ما عندي من النوم نمت داخل الكروسة واستغرقت في النوم وما استيقظت إلا بتزلزل الكروسة من الوقوع في وسط الوادي انتبهت فسمعت خوض الدواب في الماء وسمعت صوت الشيخ مع الكرارسي ضاحكاً وهوة يقول له (انده) فتذكرت قوله سم باسم الله فسميت ولكن بقيت متحيراً من وجود الشيخ معنا مع أنه لم يركب معنا ولشدة ما عندي من النوم عاودني الهجوع فبقيت نائماً إلى الزوال فاستيقظت فإذا نحن تجاوزنا السواطير فتذكرت القصة فعملت أنها كرامة للشيخ، جزاه الله خيراً.

وكان دخولي إلى أولى قرى الوطن القبلي التي هي الحمامات صبيحة يوم الخميس الثامن عشر من شهر صفر الخير فقضيت بين تلك بقية الشهر، ورأيت تلك الأيام من حسنات الدهر، إذ أن أهاليها أصحاب سكينة ولين، من العملة المساكين، لا يعنيهم غير الاشتغال بشواغلهم الزراعية، وغيرها من المهمات التي عندهم مرعيه، وأقربها إلى الحضرية نابل التي ضمت وادي السحير، الذي هو من المنازه المخصبة بكل خير، وهو وادي مرمل رحب الساحة، تحيط به البساتين التي تبيح لكل نازل ارتياحه، وبحيث إنه لو كان حول الحاضرة لكان من أعز المنازه إذ هو المنزه الذي طاب بحقيقة الهواء والماء مجازه، غير أنه لم يكن به سعد فجاء على بعد، ولذلك قلت فيه: [البيسط]

جئتك يا وادي السحير في السحر ... بواكر السعد تهمي عنك كالمطرِ

أما بواكر نسمات الصبا فترى ... مهب أعطارها في ربعك الخضرِ

على بساط فقام الأنس يزهر في ... ميامنٍ وشمال موقف الشجر

لله ساحتك الغراء ما بسطت ... فيها الرمال من الترصيع بالدرر

حاطت جوانبك الأغصان مائسة ... بما به فجرت من يانع الثمر

وفي أجنتك اهتزت معاطفها ... تحكي معاطف ذات الدل والحور

تغشي المعاطس طيباً من أزاهرها ... إذ تزدهي بالصبا في ربعك النضر

تلقى سواجعها تبدي تراجعها ... من لحنها فتوازي نغمة الوتر

عذراً لها تسامت من مياهك لا ... من خمرة تدع الألباب في خور

ففي مياهك من لطف العذوبة ما ... يبري الشجي فيغدو جامع الفكر

يا واد يا ليت شملي فيك منتظم ... بأهل ودّي على ما ندري في السمر

إذ ذاك يسقي بكاسات الوداد وقد ... فاقت فخامتها عن مائك النمر

نحيي بظلّك من إيناسنا شرفاً ... منه الرصافة أحيت سالف العصر

إذ فيك روضة أنس لا نظير لها ... فيما رأيت وما لاقيت من خبر

<<  <   >  >>