أما بعد التشرف بلثم تلك الراحة، لغير مباشرة لثمها لا أجد الأمنية من الاستراحة، فإن عبد مودتك في دروسك ينهي إلى جنابك تحيات عديدة، وأن لا أمل له إلا رجاء بطلعتكم السعيدة. هذا وإني أعلم جنابكم بأني ألخ ما تضمنه وقد كاتبني أبقاه الله تعالى ببا يملأ القلب سرورأن ويرصع تاج الآداب منظوماً ومنثورأن فرأيت أن أجعل هاته المكاتبة العزيزة لرحلتي خاتمة، وهي ليس لشيء من منشئها كاتمة، فلين هاته الرحلة أن تمت بهذا الختم الحسن، حيث أحرزت مثل هاته المكاتبة التي هي من أعظم المنن، وهذا نصه: الفاضل لكي اللوذعي، والبارع الأديب اليلمعي، المحيي من بيت مجده العلمي العلمي ما تنوسي، منزلة أعز أبنائي الشيخ سيدي محمد النسوسي، أدام الله خفظه، وأزل من سائر العرفان حظه، حتى لا تزال ترى شوارد الأدب، تنسل إلى وكر فكره الثاقب من كل حدب.
أما بعد التحية، الملائمة للوصلة الروحية، فقد شرفني كريم كتابك، وشنفني النظم والنثر من نفائس آدابك، فبعد قض ختمة العاطر، والاكتحال بمداده الذي هو جلاء النواظر، حمدت الله تعالى على نعمة العافية المستدامة، ثم على رجوعكم من السفر المرغوس بكل نجح وسلامة، ولو لم يكن من ذلك سوى الزورة القيروانية الكاملة للمخلصين أمثالكم ببلوغ كل أمنية، لكان غنماً كافيأن ومن مشاق السفر شافياً مع ما أشرتم إليه من تنبهكم للمقاصد التي تقصد من السفر، الذي هو كما قيل تهذيب وظفر، من توسيع دائرة العرفان، بمخالطة صنوف الإنسان، مشاهدة الاختلاف الواقع في عادات البلدان، وبالجملة فتوسيع ظفر المكان بمثابة طول الحياة الحاصل من سعة ظرف الزمان، وإطلاق عنان القلم في هذا المجال، ربما يخرج البطاقة عن مطابقة الحال، وقد نعمت نعم الله بالك، ونفى بلبالك، قريحتي الجامدة، وفكرتي التي هي لعدم المحركات خامدة، بالقصيدتين البديعتين، بل الخريدتين الرائعتين، فلقدت منهما منوالي الجد ولهزل كل برد قشيب، وحزت بهما منم أعلام البراعة المعلى والرقيب، ولما أعدت النظر في النونية وما بها من فنون الفتون، ذكرت قسم الله سبحانه بالقلم والنون، ولم يسع الفكر بعد استكشاف كنوناتهأن إلا أتن يسجد شكراً لله في محاريب حواجب نوناتهأن أما السحير النابليه بل السحرية البادلية، فحسبي أن أتمثل فيها بما قلته في مثلها: [السريع]
يا بنية الألباب ما نابل ... منشأك الأصلي بل بابل
كما أني لما أعدت النظر في مكتوبكم المذكور، وما احتوى عليه من جيد المنظوم والمنثور، عاودني الطرب ممزوجاً بالخجل، وصرت من نسبة تزكية النفس إليكم على وجل، واستشعرت حينئذ النفس، شاة الابن لأبيه وبالعكس، فأحجمت عن جوابكم تقديماً لدرء المفاسد على جلب المصالح، ثم استرجعت أن آخذ في هذه الجزئية بقول سمير الرابح، من راقب الناس إلخ فعند ذلك أخذت القلم عاجلأن وجاريتكم في ذلك الميدان وإن كنت راجلأن فقلت: [الكامل]
ما نسمة سحرية هبت صبا ... فنشقت منها عرف أيام الصِّبا
أو عرجت نحو الجنوب فأحدثت ... بين المضاجع والجنوب تجنبا
وأتى الجنوب بنقل ريّا أرضنا ... أشهى وأنعش للفؤاد من الصِّبا
قد ضم الأردان منها الرند وال ... نسرين لما صافحت تلك الربُّى
وروت حديث أحبتي مستجمعاً ... والنفس تفهمه بلحن معربا
والبحر حاول لأن يكون مترجما ... بجميع ألسنة اعتناء بالنبا
فتزاحمتْ في الشعر أنفس موجه ... وغدا بذلك مبهماً مستعصبا
وإذا وكالاتُ المقالات تكدرت ... بالمنطق الحاليّ أصفى مشرباً
بأرق طبعاً من رقيم موجز ... أبدى به مهديه ودّاً مطنبا
قد حمّل الآداب أمضى ما على ... فرض افتراض البربري ابنٌ ابا
در نظيم منه منظوم حكى ... حسن التناسق فيه ثغرا أشنبا
يروي صدى الصادي إلى مغناه إذ ... ويثيب ماس رويه المستعذبا
ألف وباء قبلها علمتني ... كيف اصطناع السحر من ألف وبا
وكأن منشيه رأى ترك التزا ... م الوزن في مهدي لجواهر أنسبا
فغدا يجود بأجودِ المنثور من ... غير اهتبالٍ أن يقدركم حبا
قلم جرى بمجال نظم ملجما ... ثم انبرى طلق العنان فلا كبا
هذا وكم قد أخصبت أنواره ... من روض فضل طالما قد أجدبا