وقد أجابه عن ذلك شيخ الإسلام المذكور بقوله:
يا أيها العلمُ الذي حسناته ... شرفتْ بطلعتها على الإبريز
وجَّهت لي درراً يقرُّ بحسنها ... أهلُ الصياغة من أولي التبريز
فعرفت مطلبها، ونيل مرامها ... سهل يمين الله غير عزيز
فعليه تأخير العمامة برهةً ... حتى يكون القولُ في التمييز
ثم إن شيخ الإسلام المذكور اطلع المولى الجد الشيخ محمد السنوسي قاضي باردو يومئذ على الطلب والجواب، واستجلى منه في النازلة عين الصواب، فكتب إليه بقوله: [الكامل]
قل للفقيه المستجاه بجاههِ ... في رفعِ نصب حقَّ للتمييز
إنّ النحاة الَّنصب أوجبوا ... في بابه وأبوا من التجويز
واستهجن الدؤلي لحناً ساقه ... نقلاً من الأمثال للتبريز
وكذا، العموم إذا تخصص بعضه ... ضعت دلالته بنصَّ الجيز
والظن فيمن يستجرك أنه ... منصور دمت تفوق كالإبريز
واتفق أن شاع خبر فناء الخلق في هذا القرن ونسبه أهل الأهواء إلى العالم الرباني، الأستاذ المربي الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه مع أن ذلك مما ينبو عنه مقام أدبه وسلوكه في الشريعة التي صينت من كل نقص، وكملها الله على يد خير خلقه بمحكم النص، وقد جاء في الآيات المتلوة في القرآن الذي أتم الله إبداعه، "وعنده علم الساعة" وهكذا الاعتقاد فيه وفي كل من ماثله لا يجري واحد منهم في جميع الأقوال والعمال، إلا على ما وردت به شريعة خاتم الإرسال، ولذلك لا يجوز لنا أن نأخذ مما ينقل عنهم غير ما جرى على سنن الشرع القويم، إذ ذلك دليل صحة نسبته إليهم في حالة الصحو بالنظر لمقامهم العظيم، فهم أحفظ الناس لسياج الشريعة التي جمعت ما كان ويكون، ولا يتمسك بسواها إلا الجاهلون، وعند شيوغ ذلك الخبر سنة ١٢٤١ كتب الشيخ محمد بيرم الرابع يسأله عن صحة ذلك بقوله: [الطويل]
أيا من رقى أوج المعالي وقد غدت ... إليه مقاليدُ العلوم تسلَّمُ
لقد ظهرت رؤيا لها نسبةٌ إلى ... إمام له بين الأنام تقدُّمُ
همام على دست المعالي وقد علا ... مراتبهُ من موقع النجم أعظم
ملخَّصها أن الأنام جميعهم ... لذا القرن تفنى دون ريبٍ وتعدم
أهل هو مما صحّ عندك نقله ... عن الشيخ أم للمين فيه توسم؟
أجبنا رعاك الله عن كنه أمرها ... فأنت لها من غيرك اليوم أعلمُ
لأنك ممن خاض لجَّةَ بحرها ... وأضحى بتحقيق لها يترنَّم
بقيت لنا كهفاً وللحق ناصراً ... وللصعب من دأب البغاية تحسمُ
ويطلب رب النظم حسن دعائكم ... ألا وهو الداعي "محمد بيرم"
فأجابه الشيخ إبراهيم الرياحي مكذباً ذلك بقوله:
أيا من سبى الألباب لطف كلامه ... كما أنه في الأذكياء المقدَّم
أتتني منْ سحر البيان قصيدةٌ ... وما هي عقدُ درذًَ منظمُ
تسائل عما شاع في الناس ذكرهُ ... أهل لهُ أصلٌ في الثبوت مسلم؟
نعم هو ريبٌ دون مكين وما له ... ثبوتُ وأمرُ الشيخ أعلى وأعظم
جزى الله خزياً مفتريه وذلةً ... ومأواه إن لم يعف عنه جهنم
فهذا جواب للذي هو طالبٌ ... حقيقة هذا الأمر والله أعلم
ويسأل إبراهيم من فضل ربه ... لك الأمن في الدارين وهم يسَّلم
وكانت له معرفة بأسرار تليق بمثله من العلماء الأخيار، قدم غليه أحد الأفاضل وقد أضغطه غريمه، واشتكى إليه ما يلاقي من شر الأفتضاح، فأذن له بذكر اسم من أسماء الله تعالى في خلوة، وانه عند نهاية الذكر يجد مقدار دينه تحت بساطه، فوجده قطعاً غير مسكوكة، ولما أعلم الشيخ سأله عن كيفية ذكره، فوجد فيه خللاً وأذن له في تداركه، فتم له المراد، ونهاه عن العود لمثل ذلك.
وأتته امرأة تشكو إصابة ولدها بالجنون، وتلظت لديه، فأسعفها ببطاقة تبلغها إلى ضريح الشيخ فتح الله العجمي، ولعلها تتضمن توسلات له، فعوفي ولدها بعد حين، وذلك من أدلة حسن اتصال علاقته بأولياء الله رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت له سانية في سفح جبل المنار تحت زاوية الشيخ الظريف رضي الله عنه يسكنها مدة المصيف، فاتخذ منها مسكاً للزيارة ليلاً، وقد نقل لي عن صهره أنه سمع له حديثاً عند الضريح، يدل على ما له من الود الصريح.