للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وشرح أيضاً الخزرجية في علم العروض، شرحاً قام لذلك بالقدر المفروض، فكان شرحاً وجيزاً بسيطاً، بجميع شروح الفن محيطاً، مع سهولة تقرير، ولطافة تحرير.

وأما نظمه لمتن ابن آجروم النحوي فهو وغن جمع جميع ما احتوى عليه الأصل من المسائل، وسهل حفظها لكل طالب وسائل، غير أنه فيما أظن من مبادئ نظامه، كما لا يخفى على مطالع كلامه، وإلا فإنه كان آية الله في حسن الإنشاء، يتصرف في النظم والنثر كيف يشا، قد أبدع الآداب، وسبق في حلبتها على الشعراء والكتاب، وشعره أدل دليل على قوة عارضته، التي توقف فرسان اليراعة دون الوصول إلى معارضته.

وقد تحلت ترجمته هنا بعض ببعض ما له من البدائع، المزرية بالكواعب الروائع، التي أخصب بها ربع الأدب، وتجملت بخيرنها صفحات حدود الكتب، وحسبه ما خلده بجمع ولده في ديوان الخطب، الذي يبلغ البليغ به إلى غاية الأرب.

وأما شعره الرائق، ونظامه الفائق، فأحسب أني أول من تصدى لجمعه في كتابي مجمع الدواوين التونسية، فأحصيت منه نحو خمسة كراريس تزري بالحلل السندسية، حوت نحو الألفين من أبياته الفاخرة، التي طمت بها تلك البحور الزاخرة، وهو مبلغ يصلح لأن ينفرد به ديوان شعره، الفائق في سعره، وفي ضمنه من محاضراته ما ترتاح له النفوس، ويقول مطالعه لا عطر بعد عروس.

فمن محاضراته أنه اجتمع في بعض الليالي بشاعر بلد سليمان العالم الشيخ محمد ماضور الأندلسي في بيت صديقه الكاتب محمد المسعودي واتفق في مسامرة تلك الليلية أن أدار القهوة على ذلك الجمع، وسيم لطيف الصنع، وحين دخوله يحمل فناجينها بأنامله، وطلوعه عليهم ببدر أشرق فيه بكامله، أصاب شمعة المجلس الموقودة، فانحنت انحناء من يروم سجوده، إذ رأت منه شمعة الجيد التي لا تقط، ولا تطفأ قط، وأنشد الشيخ محمد ماضور في وصف الحال من لطائف المسامرات فقال: [الرمل]

ليلةٌ قد عظمت بين الليالْ ... فهي في جيد المنى عقد الآلْ

وأرتنا عجباً إذ جمعت ... بين شمس ثم بدر وهلالْ

سعدت إذ أنزلتنا منزل المس ... عودي الشهم المفدى ذي الكمال

وبإبرهيم أبدت منظراً ... هام فيه القلب إذ عز المثال

فارتياحي بالرياحيَّ غدا ... وكذاك السعد بالمسعود (ي) طالْ

ليلة جد بنا الأنسُ بها ... طرباً بين يمين وشمالْ

وأديرت قهوة البنَّ على ... جمعنا يسعى بها بدرُ الكمال

فانحنى الشمع منيباً ساجداً ... سجدة الشكر لهاتيك الخلال

فهو والقهوة والفنجانُ في ... كفه يبدي غريباً في المثال

قمراً قد عصرَ اللّيل على ... صفحةِ الفجرِ ف مَّتْ باحتفال

مزج الحلوَ بمرَّ فكأنْ ... قد أرانا القرب والبعد المطال

يا لها من ليلة قد جمعتْ ... كل أنسٍ وبهاءٍ وكمال

وأنشد الشيخ إبراهيم الرياحي في ذلك من شعره قوله: [الطويل]

تلقيت من أخباركم كلَّ طرفة ... أنظَّمها في جيد أسمارنا عقدا

وكنتُ بتشنيف المسامع أكتفي ... واكبر بشاراً بما قاله جهدا

ولما نما شوقي وزاد تولهي ... سريت لكم ليلاً أبثكمُ وجدا

وما كان لي هاد سوى نور حسنكم ... إليكم، فلم أعدم بقولكمُ رشدا

وحيث إلى المسعود (ي) كان انتهاؤنا ... زجرت فكان الزجر يستنتج السعدا

فبت وما ليلي سوى لمح بارق ... وإن طال من دهري تنفسه الصعدا

ومن لطائفه أنه استجار به العدل الشيخ منصور الورغمي في لبس الملوسة حين ألزمها الأمير حسين باشا باي لكافة العدول على نظر الشيخ محمد بيرم الثالث وكان دميماً، فاستهجن لبسها وخاف أن يتعاطاه الناس بسببها، فكتب الشيخ في ذلك إلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث مستشفعاً بقوله: [الكامل]

كبرت عليهم إنها لكبيرة ... منصوبة علما على التمييزِ

فتفرقوا أيدي سبا في فضلها ... والخلف بين الناس غير عزيز

فعلى فريق منهم هي مثلةٌ ... ولبعضهم زلفى إلى التبريز

أما "بنو ورغمة" ففقيههم ... لهم يجر مذهبه على التجويز

فلذاك رام حماك علماً أن من ... يأتيه في حرز هناك حريز

فأجره من همزٍ ومن لمزٍ بها ... ما حالة المهموز والملموز

لا زلتم كهفاً يلاذ بعزَّه ... فينال فوق القصد كل عزيز

<<  <   >  >>