للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأما ابن عقيل:

فعلى الرغم من المكانة السامية التي بلغها، والمنزلة الرفيعة التي تبوَّأها، فإن بعض أصحابه من الحنابلة قد تكلَّم فيه، لتردُّده على بعض المشايخ من المعتزلة، وتلقيه عنهم علم الكلام.

يقول ابن عقيل عن ذلك: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء -يعني شيوخه من المعتزلة- وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً" (١).

وقد علَّق الحافظ الذهبي -الذي نقل هذا الكلام- عليه بقوله: "قلت: كانوا ينهونه عن مُجالسة المعتزلة، ويأبى، حتى وقع في حبائلهم، وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة" (٢).

وقد اشتدت نقمةُ الحنابلة عليه نتيجة تجاسُرِه على تأويل نُصوص الصفات، ودفاعه عن الحلّاج، واعتذاره له، حتى طلبوا دمه، وأهدروه، إلى أن أعلن توبته عن آرائه الإعتزالية، ورجوعه عن ترحُّمِه على الحلّاج، فانطفأت بذلك نار الفتنة.

ولم يكتف -رَحِمَهُ اللهُ- بإعلان التوبة، بل أخذ يُصنِّفُ في الردِّ على المعتزلة، هاتكاً أستارهم، وكاشَفاً عن عوارِهم عن علم ودراية.

يقول الحافظُ ابن حجر: "نعم، كان مُعتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب على ذلك، وصحَّتْ توبتُهُ، ثم صَنَّفَ في الردِّ عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم، وأطْراهُ ابنُ الجوزي، وعَوَّلَ على كلامه في أكثر تصانيفه" (٢)

ونَقل الحافظ ابن رجب قصة توبة ابن عقيل، ورجوعه عمّا كان عليه، فقال: "فمضى ابن عقيل إلى بيتِ الشريف، وصالحهُ، وكتب خطَّهُ:

يقولُ عليُّ بن عقيل بن محمد: إني أبرأُ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعةِ الإعتزال، وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والتَّرحُّمِ على أسلافهم، والتكثُّر بأخلاقهم، ومما كنتُ عَلَّقْتُه ووُجِد بخطِّي من مذاهبهم وضلالتهم، فأنا تائبٌ إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحلُّ كتابتُه، ولا قراءتُه، ولا اعتقاده، وإنني علَّقتُ مسألة الليل في جملة ذلك، وإنَّ قوماً قالوا: هو أجسادٌ سود. وقلتُ: الصحيحُ: ما سمعتُه من الشيخ


(١) سير أعلام النبلاء ١٩/ ٤٤٧.
(٢) لسان الميزان ٤/ ٢٤٣.