للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية جلى السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية في مباحث رائعة بثها في مصنفاته ورسائله وفتاويه، وقد جمع الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، من فتاوي شيخ الإسلام قسماً كبيراً رسمه بعنوان "الخلافة والملك وقتال أهل البغي" (١).

ويقسم ابن تيمية الحكام إلى قسمين: خلفاء النبوة، وملوك. ويستدل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخلافة بعدي ثلاثون، ثم تصير ملكاً عضوضاً". والأولون، وهم خلفاء النبوة هم الذين استوفوا شروط الخلافة، وأن ذلك لم يتحقق إلا في الخلفاء الراشدين، ثم تحولت الخلافة من بعدهم إلى ملك، على أن ذلك لا يقدح في شرعيتهم، وجواز تسميتهم "خلفاء" وإن كانوا ملوكاً، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء. واستدل على ذلك بحديث الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم". فقوله: "تكثر" دليل على من سوى الراشدين، فإنهم لم يكونوا كثيراً (٢).

ويقرر -رَحِمَهُ اللهُ- أيضاً: أن الميزان المحكم في تقويم أعمال الناس -ومنهم الملوك- إنما هو الموازنة بين مجموع حسناتهم ومجموع سيئاتهم، فمن ترجحت حسناته على سيئاته كان مقبولاً مرضياً.

ولما كانت مصالح الملك وحسنات الإمامة والخلافة لا تتحقق في الغالب إلا ببعض المفاسد والسيئات، كان لابد من عدم الإلتفات إلى تلك المفاسد والسيئات المرجوحة في جانب المصالح والحسنات (٣)، فهناك من الخلفاء من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الإمارة من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وأمن السبل، وجهاد العدو، وقسمة المال، إلا بحظوظ منهي عنها، من الإستئثار ببعض المال، والرياسة على الناس، والمحاباة في القسم، وغير ذلك من الشهوات ... فهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر


(١) وهو يتصدر محتوى المجلد ٣٥ من مجموع الفتاوى، وقد طبع طبعة مستقلة.
(٢) مجموع الفتاوى ٣٥/ ٢٠، وابن تيمية، لأبي زهرة، ص ٣٤٥، دار الفكر العربي.
(٣) مجموع الفتاوى ٣٥/ ٣٠ - ٣١.