ولا ينبغي أن نمتري في أن التأليف في الموضوعات المفردة في العقائد والفقه وعلوم القرآن والسنة، كانت ميزة القرن الثاني والثالث والرابع، لدى أئمة المذاهب وأصحابهم، إلا أن الحنابلة فاقوا غيرهم، وحازوا قصب السبق في ذلك، فلله دَرُّهم، كما قال ابن بدران في "العقد الثامن" من كتابه:
أعلم أن أصحابنا تفننوا في علومهم الفقهية فنوناً، وجعلوا لشجرتها المثمرة بأنواع الثمرات غصوناً، وشعبوا من نهرها جداول تروي الصادي، ويحمد سيرها الساري في سبيل الهدى، وطريق الاقتدا، ففرعوا الفقه إلى المسائل الفرعية، وألفوا فيها كتباً قد اطلعت على بعض منها (١).
التأليف في فقه الخلاف، أو الفقه المقارن:
وذلك بتجريد المسائل الفقهية الشهيرة التي اختلف فيها الأئمة، وانقسموا على مذهبين فأكثر، وهي المسماة في كتب المتقدمين بـ "مسائل الخلاف" أو"رؤوس المسائل" أو"عيون المسائل" أو غير ذلك من التسميات المقارية.
فقد جرد الفقهاء الذين اعتنوا بالإجماع والخلاف، كإبن المنذر والطبري وابن عبد البر، وغيرهم، جردوا تلك المسائل، ونصوا على الخلاف فيها بين العلماء، ثم جاء فقهاء النظر من المنتسبين إلى المذاهب، فتناولوا تلك المسائل بالإحتجاج، كلُّ فريق يحتج لمذهبه، ويرد على خصمه بحجج من النقل والعقل. وفي ذلك يقول ابن خلدون:
وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم، ومران المطالعين له على الإستدلال فيما يرومون الإستدلال عليه. وتآليف الحنفية فيه والشافعية أكثر من تآليف المالكية، لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم، كما عرفت، فهم لذلك أهل النظر والبحث. أما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم، وليسوا بأهل نظر. وأيضًا فأكثرهم أهل المغرب، وهم بادية غُفَّل من الصنائع إلا في الأقل، وللغزالي فيه "المآخذ" ولأبي بكر ابن العربي من المالكية كتاب "التلخيص" جلبه من المشرق، ولأبي زيد الدبوسي كتاب "التعليقة" ولابن القصار من شيوخ المالكية "عيون الأدلة"، وقد جمع ابن الساعاتي