للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

• نهي الإمام أحمد عن كتابة فتاويه وسبب ذلك:

كان الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- يكره تأليف الكتب التي تحتوي على الرأي والتفريعات الفقهية ويحب التمسك بالأثر، وكان ينصح طلابه وتلامذته بذلك. فقد أخرج ابن الجوزي عن عثمان بن سعيد قال: قال لي أحمد بن حنبل: لا تنظر في كتب أبي عبيد، ولا فيما وضع اسحاق، ولا سفيان، ولا الشافعي، ولا مالك، وعليك بالأصل (١).

وإذا كان الإمام أحمد يوجه أصحابه الى الإشتغال بالحديث الذي هو أصل تلك الإجتهادات المدونة في زمنه ومنبعها، فشيء واضح أنه لا يسمح لأولئك التلاميذ أن يدونوا فتاويه ويكتبوا أجوبته عن المسائل التي يُسأل عنها، وإن كان يعرف عنه أنه كان يجيب بما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة وفتاوي الصحابة، وقد كان حافظًا لذلك لا يفوته إلا القليل النادر.

قال حنبل بن اسحاق: رأيت أبا عبد الله يكره أن يكتب شيء من رأيه أو فتواه. ويلغه أن إسحاق بن منصور الكوسج قد صار يروي مسائله وفتاويه للناس بخراسان، فأشهد الناس أنه رجع عن ذلك (٢)، وذلك ليكف إسحاق عن نشر الفتاوي، وليس معناه أنه رجع بالفعل، لأننا لو حملنا كلامه على ظاهره للزم من ذلك أن تكون تلك المسائل كلها غلطًا صدر منه، ثم استدركه على نفسه، وهذه النتيجة تتنافى مع ما كان عليه من الورع والإقتفاء للسنن والآثار الثابتة عن الصحابة، وأن ذلك كان دأبه منذ النشأة الأولى، بل ما زالت تلك المسائل التي رواها اسحاق الكوسج محفوظة الى يومنا هذا، قد أوردها أو عامتها الإمام الترمذي في "جامعه" في تعليقاته على أحاديث الأبواب، وهي تدل على صدق ما قلناه.

بل ذكر ابن الفراء في ترجمة اسحاق المذكور، أنه لما بلغه رجوع الإمام أحمد عن تلك المسائل جمعها في جراب، وقدم اليه بها، فأقر بها ثانية، وأعجب بذلك أحمد من شأنه.


(١) المناقب ص ٢٤٩.
(٢) المناقب ص ٢٥١.