للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منها؛ لقول الله تعالى: {فِإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوْهُنَّ أُجُوْرَهُنَّ} [سورة الطلاق: ٦] (١)، وذلك مقتضى الحاجة الداعية إلى الاسترضاع حين كان الطفل لا يعيش في العادة إلا بالرضاع، مع عدم النفقة اللازمة لأم المولود؛ لأنها لم تعد زوجة له، والإجماع منعقد على جواز استئجار الظئر (٢)، ومن هنا كان عامة كلام الفقهاء في المسألة فيما إذا كانت مطلقة، وربما أغفلوا التصريح بحكمه عليها في حال عصمتها، وكأن رضاعها أبناءَها من زوجها أمر مسلم وظاهر، فلما كانت المرضع المطلقة مظنة الإضرار بمطلقها في ابنه، جاءت فريضة الله في ذلك بإناطة الرضاع بالوالدات بعد آيات المطلقات تذكيرًا بأداء هذه الأمانة، ثم بين الله تعالى في سورة الطلاق ما يجب في مقابل ذلك على أب الرضيع من الأجر، كما لو كانت في عصمته وله عليها النفقة.

والواقع أنه لو قيل بوجوب النفقة على زوجته المرضعة بقدر ما تحتاجه المرضعة وما تزيد به عن غيرها من زيادة الغذاء إزاء إرضاعها؛ لم يكن هناك فرق عملي فيما ستتقاضاه من الزوج فترة رضاعها؛ لأن من يقول بأجرة الرضاع للزوجة أمِّ المولود يرى أنه لا يزاد في نفقة الزوجة للإرضاع، وإن احتاجت فيه إلى زيادة الغذاء، وأنها إذا أخذت الأجرة سقطت نفقتها إن نقص الاستمتاع.

وكتاب الله تعالى في هذا صريح، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - على هذا شاهدة، ولو لم يكن الأمر كذلك؛ لكانت قواعد الشريعة وعموماته قاضية بذلك وكافية في إلزام الوالدة بإرضاع مولودها؛ في مثل قول البارئ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة: ٢] (٣)، والأمر بالرحمة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من لا يَرحم لا يُرحم" متفق عليه (٤)، حتى سقطت عن المرضع فريضة الصوم وهي ركن في الإسلام إذا خافت على رضيعها، ومن ذلك: الحكم على من قتل ولده سفهًا بالخسران {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام: ١٤٠] (٥)، وحرمانه من الرضاع مع حاجته قتل له، ومن ذلك قول الله تعالى عمن سلكوا سقرَ: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [سورة المدثر: ٤٤]، وفيمن أوتي كتابه بشماله: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [سورة الحاقة: ٣٤]، وفيما ذم به الإنسان: {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [سورة الفجر: ١٨]، وفي المقابل وصف عباده الأبرار بأنهم {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [سورة الإنسان: ٨] (٦)، والرضيع مسكين مستضعف، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك من تمام الإيمان، فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه (٧)، وعدم إرضاع المولود بما خلق الله في الثدي من الحليب لؤم ظاهر وشح مذموم، على ما في حبسه من أضرار تتعدى إلى أم المولود؛ كتأخر انقباض رحمها وعودته سريعًا إلى حجمه الطبعي، وتعرضها للإصابة بسرطان الثدي والمبيض، وغير ذلك (٨)؛ مما يوجب عليها أن تدفعه عن نفسها بإرضاع مولودها؛ لأن الضرر يزال (٩).

فإذا كان الله خلق في المولود لها لبنًا؛ فأي حكمة من إيجاده، وأي معنى من تكوينه؛ إن حرمت مولودها منه ولم تحفظ عليه نفسه بما أودع الله في صدرها؟ ، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنين: ١٤].


(١) ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (٢٣/ ٦٥). ابن حزم: المصدر السابق، (١٠/ ٤٣٦). القرافي: المصدر السابق، (٤/ ٢٧١).
(٢) ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (٨/ ٧٣).
(٣) ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (٨/ ٥٢). ابن حزم: المصدر السابق، (١٠/ ٤٣٤).
(٤) تقدم تخريجه في الفرع الثاني من المطلب الثالث للمبحث الأول في الفصل الأول.
(٥) ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (٦/ ٣١٠).
(٦) ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (٢٣/ ٢٣٩، ٤٥١، ٥٤٣).
(٧) البخاري: المصدر السابق، (كتاب الإيمان - باب من الإيمان أن يجب لأخيه ما يحب لنفسه - ١/ ١٩٨)، برقم (١٣)؛ من طريق مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس؛ به مرفوعًا. مسلم: المصدر السابق، (كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه - ١/ ٣٩٨)، برقم (٣٧)؛ من طريق محمد بن مثنى، وابن بشار؛ عن محمد بن جعفر، عن شعبة؛ بسنده عند البخاري؛ إلا أن شكًّا وقع في لفظة: "لأخيه" مع (لجاره).
(٨) ينظر: د. جاسمية شمس الدين: الرضاعة في ضوء الطب والشرع ضمن مجلة كلية الشريعة والقانون بدمنهور (٢١/ ٣٤). صلاح عبد التواب: الرضاعة الطبيعية والصحة الإنجابية (ص ٤٦٦). د. عبلة الكحلاوي: المصدر السابق، (ص ٨٩). أ. د. محمد البار: بنوك الحليب دراسة طبية فقهية (ص ٨٠ - ٨٤). د. إسماعيل مرحبا: البنوك الطبية البشرية وأحكامها الفقهية (ص ٣٢٨ - ٣٣٠).
(٩) ينظر: ابن نجيم: الأشباه والنظائر (ص ٧٣ وما بعدها).

<<  <   >  >>