للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما من لم يوجب على الأم الرضاع مطلقًا، أو لا يوجبه إلا بقيد أو بأجرة تزيد على النفقة وهي في عصمته؛ فيقال لهم: لماذا حرمتم امتناع أم المولود على الحمل وموجِبِه؟ ولماذا لم تساووا تعب الرضاعة بالحمل فيكون للحمل أجرة وهي عصمته كالرضاعة؟ ولماذا لم تبيحوا لها أن تجهض الجنين الحي إذا لم يكن لها نفقة؟

فإن قلتم: إن الرضاعة ممكنة من غيرها؛ فلم يتعين عليها، بخلاف الحمل.

أجيب: بأن الحضانة ممكنة من غيرها؛ فهل يجوز شرعًا أن تتركه لغيرها مع استيفائها الشروط؟

وإن قيل: أفإن جاء من يرضع ابنها من المراضع لتكون له أمًّا وما أشبه ذلك؛ أفتأثم الأم؟

أجيب: بأن شأن الأم مع صبيها في الرضاع كشأنها مع زوجها في النفقة؛ أفإن طعمت عند جارتها أثِم زوجها؛ لقول الله تعالى: {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [سورة الطلاق: ٧]؟

فالجواب: لا؛ لكن يلزمه نفقتها في الأصل، ويجبر على ذلك عند النزاع، وعليه أن لا يحوجها إلى غيره، فأما ما جاء اتفاقًا، أو كان لمصحلة راجحة، أو عذر معتبر؛ فإنه لا ينبغي أن ينتظم منه كلي يعود على الأصل الكلي بالنقض أو الإبطال.

فحيث أراد الشارع أن لا يترك الرضيع خليًّا أسند الحكم إلى أصل وجعله على عاتقه، ولا يضر بعد ذلك ما تفرع منه؛ لأن المقصود لذاته هو الحليب المرتضَع، ثم أسند إلى زوجها وولي رضيعها ما يعين على ذلك ويكمله، وهو النفقة بالمعروف.

وقد أذن الله في الفطام إذا كان ذلك عن نظر وتشاور ورضى؛ لأنه مظنة مصلحة المولود، وكذلك فليكن استرضاعه من غير والدته، بل هو من باب أولى؛ كما إذا ماتت والدته، أو مرضت، أو أضر به لبنها، أو كانت لا لبن لها. (١)

ثم إن الكلام هنا جارٍ على الأصل في حكم المسألة، وأما ما يعرض لها من صور وجزئيات ومستثنيات فخارج عن التقرير الحُكمي الأصلي؛ لأن أصل تقرير الفقهاء لأحكام المسائل مبني على الأحوال الظاهرة والمعتادة، وأمّا ما ينتابها من العوارض؛ فلا يلزم الفقيه أن يقيد بها تصريحًا؛ لأنها غير متناهية، والانخراط في مثل هذا آل بقوم أن قالوا حكم القيام على المصلي: الصحيح أنَّ القيام ركنٌ إن قدر عليه، وليس بركن إن لم يقدر عليه! ولو أجري الخلاف بهذه


(١) ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (١٠/ ٤٣١).

<<  <   >  >>