وليس تزاحم الأصول على الباحث وترادف الأشباه بأمر سلبي على الإطلاق ولو ترتب عليه التوقف في حكم الحادثة، بل هو أمارة غزارة العلم وقوة الفقه؛ لأنه لو كان ناقص الآلة لما بان له إلا أصلٌ واحد وشَبَهٌ واحد، ولم تكثر عليه الأصول.
فإذا اجتهد الفقيه في قضية وتبين له فيها الحق الذي يدين الله به؛ لم يخل اجتهاده من أن يكون هو الحق في نفس الأمر بمقتضى الأدلة الشرعية، أو أن يكون خطأً؛ فإن اجتمع مع الخطأ الإخلاص والعلم والعدل، فقد قيل بأن الله تعالى إنما رجح ذلك الحكم لعلمه سبحانه بأنه الذي تقتضيه الحكمة في زمان معين أو قضية خاصة، وبيان ذلك: أن الأحكام العامة إنما يمكن مطابقتها للحكمة بالنسبة إلى الغالب؛ لأن عموم الأحكام الشرعية لا يمكن أن يراعى فيها الجزئيات الفردية التي يناسبها مرجوح يجعله الله تعالى راجحًا بتقديره في المحل الذي يقتضيه، وهذا المعنى الجليل سبب من أسباب جعل كثير من الأحكام الشرعية غير واضحة كل الوضوح، ومن أسباب قولهم الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد (١).
وبعد ذلك؛ أنتقل إلى تعريف النوازل، وهي في الاصطلاح تطلق بوجه عام على المسائل والوقائع التي تستدعي حكمًا شرعيًّا، والنوازل بهذا المعنى تشمل جميع الحوادث التي تحتاج لفتوى تبينها، سواء أكانت هذه الحوادث متكررة أم نادرة الحدوث, وسواء أكانت قديمة أم مستجدة، والنوازل بهذا المعنى ترادف أو تقابل مصطلح وقائع الفتاوى.
غير أن الذي يتبادر إلى الذهن - في عصرنا هذا - من إطلاق مصطلح النازلة انصرافه إلى واقعة أو حادثة مستجدة لم تعرف في السابق بالشكل الذي حدثت فيه الآن، وهذا ما يعني أن النوازل تتنوع من حيث الوقائع إلى الأنواع الآتية:
الأول: نوازل وقعت في الماضي وأجيب عنها؛ سواء حدثت في زمن النبي-صلى الله عليه وسلم-، أو زمن الصحابة - رضي الله عنهم -، أو من بعدهم, فأجابوا عنها، وانتهت.
(١) ينظر: الجصاص: الفصول (٤/ ٢١٧ - ٢٢٠، ٣٦٥ - ٣٧١). المقري: القواعد (٢/ ٤٩٧ - ٥٠٠). المعلمي: العبادة (ص ٥٣٤ - ٥٣٦). ابن قاسم: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (٢١/ ٥٤٧). آل خنين: المصدر السابق (١/ ٤٣٦ - ٤٤٠).