للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالأسلم لك موادعتها، وخصوصًا أن السائل جاء مسترشدًا مستفهمًا بعدما أرسل إلى أهل امرأته، فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبنا، ولذلك كان من مواضع إيراد هذا الحديث من صحيح البخاري في باب تفسير المشبَّهات (١)، وباب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، فقال آخرون: ما علمنا بذلك؛ يحكم بقول من شهد (٢).

فإن قيل: إن البخاري روى في إحدى طرقه لحديث عقبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عقبة عن زوجته التي شُهِد عليه أنه ارتضع معها.

أجيب: بأن ذلك جاء جوابًا على سؤال، وهذا ما يضعف الدلالة الحتمية إذا كانت صريحة، علاوةً على كون هذه العبارة تعبر عن فهم أحد الرواة، وليست مرفوعًا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدليل على أنها من فهم راوٍ دون الصحابي أنها لم ترد في الطرق الأخرى المروية في صحيح البخاري، وهذا ما يفسر إيراد البخاري لهذا الحديث في باب تفسير المشبَّهات (٣).

وبأن المعنى: فزجره عنها، كما زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يأكل بشماله، وجماهير العلماء على كراهة الأكل بالشمال من دون تحريم. (٤)

فإن قيل: إن الأصل في المطاعم وآدابها الإباحة، وفي المناكحات التحريم، فيحتاط لها في التفريق بين الزوجين بشهادة امرأة أن بينهما قرابة رضاعية.

أجيب: بأن الاحتياط في جانب الأخت الرضاعية بعدم استدامة نكاحها يقابله الاحتياط في الخلوة بالأم الرضاعية وأصولها وأصول زوجها الذي ثاب اللبن منه وفروعهما وحواشيهما وفروع الرضيع والنظر إليهم، كما يقابله تحريم ما الأصل في الشروع فيه الإباحة إلا ما دل الدليل على المنع منه، وهو النكاح، ولا دليل.

وأما ما روي من أقضية الصحابة والتابعين في الأخذ بشهادة المرأة الواحدة والتفريق بين الزوجين بناء عليها؛ فلا يعول عليها؛ لما يأتي:

أولًا: إنها مخالفة لعامة أقضية الخلفاء الراشدين من الصحابة؛ قال ابن حجر العسقلاني ت ٨٥٢ هـ: أخرج أبو عبيد من طريق عمر، والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس؛ أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك، فقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة وإلا فخل بين الرجل وامرأته إلا أن يتنزها، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين الزوجين إلا فعلت ا. هـ (٥)

ثانيًا: إنها مخالفة لأقضية أخرى مماثلة في عصرهم، وتقابُلُها يفضي إلى تعارضها، ومن ثم تساقطها، والرجوع إلى الأصل، وهو عدم الرضاع.

ثالثًا: إن دلالتها غير صريحة؛ فيحتمل أن يكون المقصود من ذكر المرأة جنسها وأنه كافٍ في إثبات مثل هذا الحكم الذي لا يطلع عليه غير النساء في الأصل دون الحاجة إلى الجنس الآخر وهو جنس الرجال، أو أن يكون التفريق مبنيًّا على موافقة الزوجين، أو عدم اعتراضهما وتفضيلهما الأخذ بالورع والاحتياط، أو إقرار زوج المرضع، وهذا مقتضى الجمع بين ما يظهر منه التعارض.

رابعًا: إن أسانيدها لا تخلو من مقال، والأصل المتيقن منه هو استدامة عقد النكاح؛ فلا ينتقل عنه بغير يقين.

ويتأكد الأخذ بهذا القول إذا ترتب على الشهادة فسخ نكاح منعقد، ومن دواعي عدم الأخذ بقول من يقول بإجزاء شهادة المرأة الواحدة في الرضاع الذي يترتب عليه فسخ النكاح فساد أهل الأزمنة المتأخرة، ولا أدل على ذلك من فشو الأسئلة حول من يدعي الرضاع بين الزوجين بعد مضي دهر على الزواج مع علم الشاهد بالعقد مذ إنشائه (٦)، وتعليل الأحكام بفساد الأزمان فرع عن تغير الأحكام بتغير الصورة الحادثة واختلافها (٧)، وإلى جانبه؛


(١) ينظر: البخاري: المصدر السابق، (٣/ ١٦٥).
(٢) ينظر: البخاري: المصدر السابق، (٣/ ٤٩٥).
(٣) المصدر السابق.
(٤) ينظر: النووي: شرح مسلم (١٣/ ٢٠٤).
(٥) ابن حجر: المصدر السابق، (٦/ ٥٢٨). وبمعناه أُثِر عن عمر، غير أن ابن حزم ناقش ذلك إلى جانب جهالة راويه قائلًا: بضرورة العقل يدري كل أحد أنه لا فرق بين امرأة وبين رجل، وبين رجلين، وبين امرأتين، وبين أربعة رجال، وبين أربع نسوة؛ في جواز تعمد الكذب والتواطؤ عليه، وكذلك الغفلة ولو حينًا ا. هـ ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (٩/ ٥٢٣). ابن القيم: المصدر السابق، (١/ ٤١٥).
(٦) ينظر مثلًا: فتاوى نور على الدرب لابن باز (٢٣/ ٢٠٣، وما بعدها).
(٧) وأهل العلم عند تعليلهم في تغيُّر الأحكام بفساد الزمان؛ إنما يبحثون عن مراد الله ورسوله من دون أن يكون لأهواء النفوس ومصالحها مدخل؛ حمايةً للشريعة وطلبًا لبقائها خالدة وحاكمة أمام من يبتغي ضعف صلاحيتها في الواقع أو يتنصل من أحكامها. ينظر: ابن القيم: الطرق الحكمية (١/ ٣٧٩). أ. د. عبد الله السلمي: تعليل الأحكام بفساد الزمان (ص ٣٩، ٤٤، ٦٠).

<<  <   >  >>