فتأخر الشهادة إلى ما بعد العقد مظنة كذبها، لا سيما وأن أمر الرضاعة ظاهر لا يخفى؛ بل يطلع عليه من يعاشر المرضعة ويسكن معها؛ فيعلم بقدوم الصبي وذهابه، أو يعلم بمستلزمات حضانته إذا كان الرضيع مقيمًا عند المرضعة، وما هذا شأنه؛ فمظنة أن يكون الشهود على ذلك كُثُر.
وأما تقييد الشهود بأوصاف يذكرها بعض أصحاب؛ كأن تكون الشهاة ممن يتوافر فيه شرط العدالة والرضى؛ فهو أمر مسلم به؛ لعموم قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[سورة الحجرات: ٦]، ويشبه أن يشترط أحد أصحاب الأقوال أن تكون الشاهدة عاقلة لا مجنونة، ولذلك؛ لا ينبغي أن تكون هذه المسألة موضعًا لهذه الشروط؛ قال تقي الدين ابن تيمية ت ٧٢٨ هـ: مِن فصيح الكلامِ وجيِّدِه الإطلاقُ والتعميمُ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد، وعلى هذه الطريقة الخطابُ الواردُ في الكتاب والسنة وكلام العلماء؛ بل وكلِّ كلامٍ فصيح، بل وجميع كلام الأمم؛ فإن التعرُّضَ عند كلِّ مسألةٍ لقيودها وشروطها تَعَجْرُف وتكلُّف، وخروج عن سَنَن البيان، وإضاعةٌ للمقصود، وهو يُعَكِّر على مقصود البيان بالعكس؛ فإنه إذا قيل: تجب الزكاة في الحُليِّ، فقال: إن كان لامرأةٍ مسلمة ليس عليها دين حالٌّ لآدمي يُنْقِصُ زكاةَ المال عن أن يكون نصابًا، وحالَ عليه حولٌ لم يخرج عن ملكها ويدُها ثابتةٌ عليه؛ وجَبَتْ فيه الزكاة = كان ذلك لُكْنَةً وعِيًّا ا. هـ (١)
وإذا تقرر ذلك؛ فهل يكفي في إثبات الرضاع امرأتان أو لا بد أربع نساء؛ هذا محل اجتهاد وبحث، ويمكن أن يكون لاجتهاد الحاكم فيه مدخل باختلاف كل قضية وما يحتف بها من القرائن والأحوال، وفق ما تقتضيه السياسة الشرعية، ولو قيل بأنه يجزئ لشهادة الرضاع إلى جانب شهادة المرضع شهادةُ زوجها الذي تنشر الحرمة إليه فروعًا وحواشيَ وأصولًا؛ كان وجيهًا، ومما يستأنس به لذلك حديثُ ابن البيلماني المتقدم قريبًا، والذي جاء في بعض ألفاظه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يجزئ من الشهود على الرضاع:"رجل وامرأته".
(١) تقي الدين ابن تيمية: تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (٣٣٢ - ٣٣٣).