للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"أما بعد حمد الله مقيل المستقيل من العثار، وغافر ذنب التائب بعد الإصرار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه المختار، وحبيبه المصطفى على المرسلين الأخيار، المنتقى من أطهر عنصر ونجار، وأظهر بيت سؤدد وفخار، وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار من المهاجرين والأنصار، والدعاء للمقام العليّ، والفخر الجلي، الظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار، ذي الدولة التي هي في جبهة جبين الدهر غرة، وفي قلادة لبّته درّة، وفي معصمه سوار، الطالع بدرها في أفق السيادة وفلك السعادة أمناً من السرار بجعل الملك كلمة باقية في عقبه إلى يوم القرار، فيا مولانا خلد الله تعالى على حضرتكم الشريفة سوابغ الإنعام، وأدام ظلالها الوريفة على الخاص والعام. ولا زلت ملجأ القاصدين، ووجهة الراغبين، إني قصدت مقامك العلي للإقالة طالبا، وفي رفع يدي عن خطة القضاء راغبا، مقدماً شرح حالي لدى السيادة العلية، مؤملاً من فيض فضلها بلوغ الأمنية، فليكن في شريف علم مولانا حرس الله مجده، وصان سعده، ولا أرانا فقده، أني تقلدت هذه الخطة، ودخلت في هذه العهدة البعيدة الشقة، بعد أن سبق بذلك القضاء الغالب، والقدر الذي لا ينجو من طلبه هارب. وذلك أمر سطر في الكتاب، وإنما العبد مجيب للقدر لا مجاب، على علم مني بصعوبة مداركها، وضيق مسالكها، وكثرة عطب سالكها، غير أن الإجمال ليس كالتفصيل، والكثير في نظر البعيد قليل. وما أمكنني إذ ذاك مقابلة أمرك المطاع، بالرد والامتناع، بل إن ذلك عقوق، لما للسيادة علينا من الحقوق، تأنف من أن تتلبس به هنا طباع لها في باب رعاية الحقوق، مع أن طلبتي الآن للإقالة، أولى من الامتناع في تلك الحالة، فإن اللائق أن أكون للمقام العلي طالباً لا مطلوباً، وراغباً في فضله لا مرغوبا. فقبلتها والقلب مني راجف، والدمع على الخدين واكف، فلاقيت من وصبها ليل السليم، واستقبلت من نصبها ما يعلمه السميع العليم. فما صفا لي منذ تقلدتها يوم، ولا ذاق جفني بعدها حلاوة نوم، وكيف لا وهي الفيح التي تتيه فيه القطا ويقصر عن سلوكه مديد الخطى. هذا مع ضعف جسدي، وقلة جلدي، ونهوك جسمي، وشمول النحول لحمي وعظمي، وأنّى لمثلي ممن لم يذق لذة شباب، لتوالي علله وأوصابه، والقيام بهذا الأمر العظيم، ومعاناة الخطب الجسيم، فمكثت فيها هذه المدة قابضاً يدي على الجمر، مستسلماً لمن له الخلق والأمر، ثم إن الضعف بي لشدتها قد زاد، والنحول لهولها أربى على المعتاد، والفساد تدرج في المزاج وقد ألهى عن العلاج وحين رأيت الصحة رجعت مني القهقرى، وجند صبري ولى مدبرا، وسحاب المرض عليّ متراكما، وما كان من عرضه مفارقاً عاد لازما، قلت أفيء لمولاي الذي تفضل بإسداء نعمتها، ليتطول علينا رفع كلفتها، حتى يكون أيده الله تعالى جامعاً فيها بين عطيتين، منعماً عليّ فيها بنعمتين، وفضل هذا عندي أعظم، وشكري عليها أوجب وألزم، فإن خلاص العبد من هذه العهدة، هو لديه حديث الفرج بعد الشدّة والذي لا يحلف به المسلم كاذبا، ولا ينجو من درك الحنث في القسم به ذاهباً أو آيباً. ليس لي فوق هذا المطلب مرام، سوى من الله تعالى علي الموت على الإسلام. على أنه لو لم يكن لي عذر المرض، وما طرأ بالجسم منه وعرض، ففي المنقول عن إمامنا أبي حنيفة، بوأه الله تعالى إلى الرتب المنيفة، أن لا يترك القاضي على القضاء أكثر من سنة كي لا ينسى العلم، هذا والرجال رجال وقته أولو التحقيق والفهم، فكيف بنا والحال ما هو معلوم، وهل تقاس الحصباء بالنجوم، مع أني قد بلغت الحد المعدود، بل تجاوزت الأجل المعهود.

فها أنا قد شرحت للمقام العلي باطن أمري، وللحضرة السامية بينت عذري، وتوسلت في تبليغ المرام، وإرواء الأوام، بالسادات الأنجال الكرام، بدور الليالي وشموس الأيام، أبقاهم الله بهجة للزمان، متحلياً بهم سرير الملك والإيوان.

والمعهود من تلك الحضرة أسماه الله تعالى وأعلاها، وأدام على الأنام غمام نداها، أن لا تردّ فيها الوسائل، ولا يخيب لديها سائل، فاجبر أيها المولى الكبير وفك المعاني والأسير، وارحم العليل، وبرد له الغليل، وانظر بعين الشفقة لجسم بال ترشقه من كنانة الألم نبال، واغتنم دعاء صاحب هذا الحال لمقامكم العلي في أطراف الليال.

[الطويل]

أقلني فقد ضاقت عليّ مذاهبي ... وأثقل مني الظهر ما أن حاملُ

<<  <   >  >>