أما بعد فلا يخفاك أن طاعتك فريضة وأن من جزئياتها النصيحة لك كما قال عليه السلام: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأيمة المسلمين وعامتهم وها أنا ممن ألهمك الله في تقديمه لهاته الخطة التي بها قوام حال العباد والبلاد، وإلهامه لا يمنعك من إمعان النظر في صلاح القوم وعدمه إذ لا معارضة بين المن ووقوع المقدور على وفق مراد القدر والذي يجب علي أداء نصيحة نفسي ونصيحتك أني لها لا أليق، ولحمل أعبائها غير مطيق، لا من جهة الأهلية ولا من جهة ضعف البدن الذي قام عليه دليل العيان، وفي الحديث لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان، قال العلماء كافة لا مفهوم لهذا الوصف بل هو إشارة إلى كل مشوش حتى الصيام فالمرض محل اتفاق أنه مدخل في حديثه عليه السلام وإذا كان صاحب الشريعة قال لي: لا تقضي فكيف أعصيه فيما أنا أزعم كاذباً نائبه فيه حاشا لله أكون أهلاً للنيابة عنه وأنا المجروح، والملفوظ من رحى العدالة المطروح، فسألتك بجاهه الذي لا يرد إلا ما أقلتني وعن رضى منك عافيتني وهذا ربنا تعالى الملك الأكبر، لم يرد هنا الجاه فأنت يا ملك الأرض أحرى وأجدر، ولست أخادعك بالتمويه فإني لا أرضاه، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وقال تعالى بل الإنسان على نفسه بصيرة ثم ليكن في علمك أني لست على حرف في خدمتك ولا ممن تقربه الولاية أو تبعده العزل عن حومتك بل ضعني من المنازل حيث شئت غير هاته الخطة فإني راض لأني لا أصلح للنياية عن الله ورسوله في أحكامه والتحية معادة من فلان.
ثم إن الأمير راجعه وامتنع عن قبول استعفائه فأعاد إليه الطب وألح على الخروج من الخطة وعند ذلك قبل الأمير استعفاءه وقدمه مفتياً ثانياً من أول وهلة وتقدم بذلك على من سبقه في الخطة وذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة ١٢٦١ إحدى وستين ومائتين وألف وعند ذلك تصدى للإقراء بجامع الزيتونة فأقرأ شرح التاودي على العاصمية وألزم جميع مدرسي الجامع بالحضور عليه فحضروا وكان فيمن حضر بين يديه العالم الشيخ حمدة بن عاشور وكتب حاشية على الشرح المذكور مملوءة فقهاً وتحريراً وصل فيها إلى الرهن وقرظها جدي الكاتب الشاعر الشيخ محمد ابن الشيخ محمد السنوسي بقوله: [البسيط]
زارتْ بتيهٍ ولم تخطر على بالي ... رغماً على حسّادي وعذّالي
وأقبلت وعليها للبها حلل ... تختال في أربح منها وإجلال
وسكَّنت قلب صب مغرمٍ دنفٍ ... بعد التمنع مشحوناً بإمطال
بتنا وللشهب غارات ومزدحم ... كأنها افتقدت قطباً وبرقال
وقد خلوت بها واللّيل منسدل ... وحدي وقد ظفرتْ بالوصل آمالي
مددت كفِّي لأحظى من تمتعها ... والنفس طاغية من فرط إملال
فصادفتْ عقدها المنضود فانتشرت ... منه الجواهر فافترَّتْ بإقبال
فبتُّ ألتقط الدر النفيس إلى ... أن أقبل الصبح أومتْ لي بإنزالي
فقلت من أنت قالت وهي ضاحكةٌ ... أنا ابنةُ الفكر مضروب بأمثال
أنا ابنة الثاقب الذهن الذي نشأتْ ... بين الأكارم في عز وإفضال
أنا اليتيمةُ في دهري ولا هجبٌ ... جسمي من الدر فاستبصر لإكمال
بحري محيط ولا يخشى لراكبه ... بأس ولا عطب في خير أحوالي
إذ ذاك نبئت أن الدرَّ منشؤه ... بحر السلامة فاسبح واتل أقوالي
ذاك الهمامُ الذي جالت قريحته ... بخالص القول إذ حفّت بأنوال
ذاك الذي عز عن شبه النظير له ... إذا طما بحر إعمالٍ وإهمال
بحر العلوم فلم يدركه ذو شرف ... سواه يسبح في فهم وإشكال
في غامض الفقه يروي عن جهايذة ... لم يرم مرماه ذو سبق ولا تالي
حارت عقول النهى عن نيل مدركه ... وفاز عنهم بتحرير وأعمال
يا من تحكم بالإبداع رونقه ... وزانه حسن تقرير كسلسال
خذ هذه خردا تحكي فضائل ما ... صاغته أفكاركم من غير إملال
لا زلت أيَّ سراج يستضاء به ... إذا دجا مشكلُ يوفي بإجمال
وكتب حاشة على خطبة القاضي البيضاوي تبلغ نيفاً وعشرين كراساً، وشرح قصيدة البكري.
وأنشا قصيدة في فضل النعال الشريفة وشرحها.
وكتب تاريخاً تونسياً خص به مخدومه المشير أحمد باشا باي أودعه ما شاء من أخباره معه وما قيل فيه من المدائح والأشعار.